فصل: تفسير الآيات رقم (8- 11)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏8- 11‏]‏

‏{‏اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ ‏(‏8‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ ‏(‏9‏)‏ سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ ‏(‏10‏)‏ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ‏(‏11‏)‏‏}‏

مناسبة هذه الآية لما قبلها هو ما نبه عليه الزمخشري من أنه تعالى لما طلب الكفار أن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آية وكم آية نزلت، أردف ذلك بذكر آيات علمه الباهر، وقدرته النافذة، وحكمته البليغة، وأن ما نزل عليه من الآيات كافية لمن تبصر، فلا يقترحون غيرها، وأنّ نزول الآيات إنما هو على ما يقدره الله تعالى‏.‏ وقيل‏:‏ مناسبة ذلك أنه لما تقدم إنكارهم البعث لتفرق الأجزاء واختلاط بعضها ببعض، بحيث لا يتهيأ الامتياز بينها، نبه على إحاط علمه، وأن من كان عالماً بجميع المعلومات هو قادر على إعادة ما أنشأ‏.‏ وقيل‏:‏ مناسبة ذلك أنهم لما استعجلوا بالسيئة نبه على علمه بجميع المعلومات، وأنه إنما نزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ قص في هذا المثل المنبه عل قدرة الله القاضية بتجويز البعث، فمن ذلك الواحدة من الجنس التي هي مفاتيح الغيب يعني‏:‏ التي لا يعلمها إلا هو، وما تحمله الإناث من النطفة من كل نوع من الحيوان‏.‏ وهذا البدء يبين أنه لا يتعذر على القادر عليها الإعادة‏.‏ والله يعلم‏:‏ كلام مستأنف مبتدأ وخبر، ومن فسر الهادي بالله جاز أن يكون الله خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هو الله تعالى، ثم ابتدأ إخباراً عنه فقال‏:‏ يعلم‏.‏ ويعلم هنا متعدية إلى واحد، لأنه لا يراد هنا النسبة، إنما المراد تعلق العلم بالمفردات‏.‏ وما جوزوا أن تكون بمعنى الذي، والعائد عليها في صلاتها محذوف، ويكون تغيض متعدياً‏.‏ وأن تكون مصدرية، فيكون تغيض وتزداد لا زمان‏.‏ وسماع تعديتهما ولزومهما ثابت من كلام العرب‏.‏ وأن تكون استفهاماً مبتدأ، وتحمل خبره ويعلم متعلقه، والجملة في موضع المفعول‏.‏ وتحمل هنا من حمل البطن، لا من الحمل على الظهر‏.‏ وفي مصحف أبي‏:‏ ما تحمل كل أنثى، وما تضع وتحمل على التفسير، لأنها زيادة لم تثبت في سواد المصحف‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ تغيض تنقص من الخلقة، وتزداد تتم‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ غيض الرحم أن ينهرق دماً على الحمل، فيضعف الولد في البطن ويسحب، فإذا بقي الولد في بطنها بعد تسعة أشهر مدة كمل فيها من خمسة وصحبه ما نقص من هراقة الدم، انتهى كلام ابن عباس‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ تغيض بطهور الحيض في الحبل، وتزداد بدم النفاس بعد الوضع‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الغيض السقط، والزيادة البقاء فوق تسعة أشهر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ غيض الرحم أن تسقط المرأة الولد، والزيادة إن تضعه لمدة كاملة تامة‏.‏ وعن الضحاك أيضاً‏:‏ الغيض النقص من تسعة أشهر، والزيادة إلى سنتين‏.‏ وقيل‏:‏ من عدد الأولاد، فقد تحمل واحداً، وقد تحمل أكثر‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ غيض الرحم الدم على الحمل‏.‏

قال الزمخشري‏:‏ إن كانت ما موصولة فالمعنى‏:‏ أن يعلم ما تحمل من الولد على أي حال هو من ذكورة وأنوثة، وتمام وخدج، وحسن وقبح، وطول وقصر، وغير ذلك من الأحوال الحاضرة المترقبة‏.‏ ويعلم ما تغيضه الأرحام تنقصه، وما تزداد أي تأخذه زائداً تقول‏:‏ أخذت منه حقي وازددت منه كذا، ومنه‏:‏ ‏{‏وازدادوا تسعاً‏}‏ ويقال‏:‏ زدته فزاد بنفسه وازداد‏.‏ وما تنقصه الرحم وتزداد عدد الولد، فإنها تشتمل على واحد، وقد تشتمل على اثنين وثلاثة وأربعة‏.‏ ويروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه‏.‏ ومنه جسد الولد، فإنه يكون تاماً ومخدجاً، ومنه مدة ولادته فإنها تكون أقل من تسعة أشهر، فما زاد عليها إلى سنة عند أبي حنيفة، وإلى أربع عند الشافعي، وإلى خمس عند مالك‏.‏ وقيل‏:‏ إن الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حبان بقي في بطن أمه أربع سنين ولذلك سمي هرماً ومنه الدم فإنه يقل ويكثر‏.‏ وإن كانت مصدرية فالمعنى‏:‏ أنه يعلم حمل كل أنثى، ويعلم غيض الأرحام وازديادها، فلا يخفى عليه شيء من ذلك من أوقاته وأحواله‏.‏ ويجوز أن يراد غيوض ما في الأرحام وزيادته، فأسند الفعل إلى الأرحام وهو لما فيها، على أنّ الفعل غير متعد ويعضده قول الحسن‏:‏ الغيضوضة أن يقع لثمانية أشهر أو أقل من ذلك، والازدياد أن يزيد على تسعة أشهر‏.‏ وعنه‏:‏ الغيض الذي يكون سقطاً لغير تمام، والازدياد ولد التمام انتهى‏.‏ وهو جمع ما قاله المفسرون مفرقاً‏.‏ وبمقدار يقدر، ويطلق المقدار على القدر، وعلى ما يقدر به الشيء‏.‏ والظاهر عموم قوله‏:‏ وكل شيء عنده بمقدار، أي‏:‏ بحد لا يتجاوزه ولا يقتصر عنه‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ وكل شيء من الثواب والعقاب عنده بمقدار أي‏:‏ بقدر الطاعة والمعصية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ من الغيض والازدياد‏.‏ وقال قتادة‏:‏ من الرزق والأجل‏.‏ وقيل‏:‏ صحة الجنين ومرضه، وموته، وحياته، ورزقه، وأجله‏.‏ والأحسن حمل هذه الأقوال على التمثيل لا على التخصيص، لأنه لا دليل عليه‏.‏

والمراد من العندية العلم أي‏:‏ هو تعالى عالم بكمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين، فامتنع وقوع اللبس في تلك المعلومات‏.‏ وقيل المراد بالعندية أنه تعالى خصص كل حادث بوقته بعينه، وحالة معينة بمشيئته الأزلية وإرادته السرمدية‏.‏ ولما ذكر أنه عالم بأشياء خفية لا يعلمها إلا هو، وكانت أشياء جزئية من خفايا علمه، ذكر أن علمه محيط بجميع الأشياء، فعلمه تعالى متعلق بما يشاهده العالم تعلقه بما يغيب عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ الغائب المعدوم، والشاهد الموجود‏.‏ وقيل‏:‏ الغائب ما غاب عن الحس، والشاهد ما حضر للحس‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ عالم الغيب بالنصب، الكبير العظيم الشأن الذي كل شيء دونه، المتعال المستعلي على كل شيء بقدرته، أو الذي كبر عن صفات المحدثين وتعالى عنها‏.‏ وأثبت ابن كثير وأبو عمرو في رواية‏:‏ ياء المتعال وقفاً ووصلاً، وهو الكثير في لسان العرب، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، لأنها كذلك رسمت في الخط‏.‏

واستشهد سيبويه بحذفها في الفواصل ومن القوافي، وأجاز غيره حذفها مطلقاً‏.‏ ووجه حذفها مع أنها تحذف مع التنوين، وإن تعاقب التنوين، فحذفت مع المعاقب إجراء له مجرى المعاقب‏.‏ ولما ذكر أنه تعالى عالم الغيب والشهادة على العموم، ذكر تعالى تعلق علمه بشيء خاص من أحوال المكلفين، فقال‏:‏ سواء منكم الآية‏.‏ والمعنى‏:‏ سواء في علمه المسر القول، والجاهر به لا يخفى عليه شيء من أقواله‏.‏ وسواء تقدم الكلام فيه، وفي معانيه، وهو هنا بمعنى مستو، وهو لا يثني في أشهر اللغات‏.‏ وحكى أبو زيد تثنيته فتقول‏:‏ هما سواآن‏.‏ وقيل‏:‏ هو على حذف أي‏:‏ سواء منكم سرّ من أسرّ القول، وجهر من جهر به، وأعربوا سواء خبر مبتدأ أو من أسر، والمعطوف عليه مبتدأ‏.‏ ويجوز أن يكون سواء مبتدأ لأنه موصوف بقوله‏:‏ منكم، ومن المعطوف الخبر‏.‏ وكذا أعرب سيبويه قول العرب‏:‏ سواء عليه الخير والشر‏.‏ وقول ابن عطية‏:‏ إن سيبويه ضعف ذلك بأنه ابتداء بنكرة، وهو لا يصح‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ مستخف مستتر وسارب ظاهر‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ مستخف بالمعاصي‏.‏ وتفسير الأخفش وقطرب‏:‏ المستخفي هنا بالظاهر‏.‏ وإن كان موجوداً في اللغة ينبو عنه اقترانه بالليل، واقتران السارب بالنهار‏.‏ وتقابل الوصفان في قوله‏:‏ ومن هو مستخف، إذ قابل من أسر القول‏.‏ وفي قوله‏:‏ سارب بالنهار إذ قابل ومن جهر به‏.‏ والمعنى والله أعلم إنه تعالى محيط علمه بأقوال المكلفين وأفعالهم، لا يعزب عنه شيء من ذلك‏.‏ وظاهر التقسيم يقتضي تكرار من، لكنه حذف للعلم به، إذ تقدم قوله‏:‏ من أسرّ القول ومن جهر به، لكن ذلك لا يجوز على مذهب البصريين، وأجازه الكوفيون‏.‏ ويجوز أن يكون‏:‏ وسارب، معطوفاً على من، لا على مستخف، فيصح التقسيم‏.‏ كأنه قيل‏:‏ سواء شخص هو مستخف بالليل، وشخص هو سارب بالنهار‏.‏ ويجوز أن يكون معطوفاً على مستخف‏.‏ وأريد بمن اثنان، وحمل على المعنى في تقسيم خبر المبتدأ الذي هو هو، وعلى لفظ من في إفراد هو‏.‏ والمعنى‏:‏ سواء اللذان هما مستخف بالليل والسارب بالنهار، هو رجل واحد يستخفي بالليل ويسرب بالنهار، وليرى نصرفه في الناس‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ فهذا قسم واحد، جعل الله نهار راحته‏.‏ والمعنى‏:‏ هذا والذي أمره كله واحد بريء من الريب، سواء في اطلاع الله تعالى على الكل‏.‏ ويؤيد هذا التأويل عطف السارب دون تكرار من، ولا يأتي حذفها إلا في الشعر‏.‏ وتحتمل الآية أن تتضمن ثلاثة أصناف‏.‏ فالذي يسر طرف، والذي يجهر طرف مضاد للأول، والثالث متوسط متلون يعصي بالليل مستخفياً ويظهر البراءة بالنهار انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ ومن هو مستخف بالليل بظلمته، يريد إخفاء عمله فيه كما قال‏:‏ أزورهم وسواد الليل يشفع لي‏.‏

وقال‏:‏

وكم لظلام الليل عندي من يد *** والظاهر عود الضمير في له على من، كأنه قيل لمن أسرّ، ومن جهر، ومن استخفى، ومن سرب‏:‏ معقبات‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ هو عائد على من قوله‏:‏ ومن هو مستخف، وكذلك في باقي الضمائر التي في الآية‏.‏

قال ابن عطية‏:‏ والمعقبات على هذا حرس الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قال‏:‏ والآية على هذا في الرؤساء الكافرين‏.‏ واختار هذا القول الطبري، وهو قول عكرمة وجماعة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو السلطان المحرس من أمر الله‏.‏ وذكر الماوردي أنّ الكلام على هذا التأويل نفي تقريره لا يحفظونه من أمر الله انتهى‏.‏ وحذف لا، لا في الجواب قسم بعيد‏.‏ قال المهدوي‏:‏ ومن جعل المعقبات الحرس فالمعنى‏:‏ يحفظونه من الله على ظنه وزعمه‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في له عائد على الله تعالى أي‏:‏ لله معقبات ملائكة من بين يدي العبد ومن خلفه، والمعقبات على هذا الملائكة الحفظة على العباد وأعمالهم، والحفظة لهم أيضاً‏.‏ وروي فيه حديث عن عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قول مجاهد والنخعي‏.‏ وقيل‏:‏ الضمير في له عائد على الرسول صلى الله عليه وسلم وإن لم يجر له ذكر قريب، وقد جرى ذكره في قوله‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ والمعنى‏:‏ أنّ الله تعالى جعل لنبيه صلى الله عليه وسلم حفظة من متمردي الجن والإنس‏.‏ قال أبو زيد‏:‏ الآية في النبي صلى الله عليه وسلم نزلت في حفظ الله له من أربد بن قيس، وعامر بن الطفيل، من القصة التي سنشير إليها بعد في ذكر الصواعق‏.‏ والقول الأول في عود الضمير هو الأولى الذي ينبغي أن يحمل عليه وعليه يفسر‏.‏ ويقول‏:‏ لما تقدم أنّ من أسر القول ومن جهر به، ومن استخفى بالليل وسرب بالنهار، مستو علم الله تعالى لا يخفى عليه من أحوالهم شيء، ذكر أيضاً أن لذلك المذكور معقبات‏:‏ جماعات من الملائكة تعقب في حفظه وكلاءته‏.‏ ومعقب‏:‏ وزنه مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر، لأن بعضهم يعقب بعضاً، أو لأنهم يعقبون ما يتكلمون به فيكتبونه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ والأصل معتقبات، فأدغمت التاء في القاف كقوله‏:‏ ‏{‏وجاء المعذرون‏}‏ يعني المعتذرون‏.‏ ويجوز معقبات بكسر العين، ولم يقرأ به انتهى‏.‏ وهذا وهم فاحش، لا تدغم التاء في القاف، ولا القاف في التاء، لا من كلمة ولا من كلمتين‏.‏ وقد نص التصريفيون على أنْ القاف والكاف يدغم كل منهما في الآخر، ولا يدغمان في غيرهما، ولا يدغم غيرهما فيهما‏.‏ وأما تشبيهه بقوله‏:‏ وجاء المعذرون، فلا يتعين أن يكون أصله المعتذرون، وقد تقدم في براءة توجيهه، وأنه لا يتعين ذلك فيه‏.‏ وأما قوله‏:‏ ويجوز معقبات بكسر العين، فهذا لا يجوز لأنه بناه على أن أصله معتقبات، فأدغمت التاء في القاف‏.‏

وقد ذكرنا أن ذلك وهم فاحش، والمعقبات جمع معقبة‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء في معقبة للمبالغة، فيكون كرجل نسابة‏.‏ وقيل‏:‏ جمع معقبة، وهي الجماعة التي تأتي بعد الأخرى، جمعت باعتبار كثرة الجماعات، ومعقبة ليست جمع معقب كما ذكر الطبري‏.‏ وشبه ذلك برجل ورجال ورجالات، وليس الأمر كما ذكر، لأنّ ذلك كجمل وجمال وجمالات، ومعقبة ومعقبات إنما هي كضارب وضاربات قاله‏:‏ ابن عطية‏.‏ وينبغي أن يتأول كلام الطبري على أنه أراد بقوله‏:‏ جمع معقب، أنه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث معقب، وصار مثل الواردة للجماعة الذين يردون، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث وارد، من حيث أنْ يجمع جموع التكسير للعامل يجوز أن يعامل معاملة المفردة المؤنثة في الأخبار‏.‏ وفي عود الضمير لقوله‏:‏ العلماء قائلة كذا، وقولهم الرجال وأعضادها، وتشبيه الطبري ذلك برجل ورجال ورجالات من حيث المعنى، لا من حيث صناعة النحويين، فبين أنّ معقبة من حيث أريد به الجمع كرجال من حيث وضع للجمع، وأن معقبات من حيث استعمل جمعاً لمعقبة المستعمل للجمع كرجالات الذي هو جمع رجال‏.‏ وقرأ عبيد بن زياد على المنبر له المعاقب، وهي قراءة أبي وإبراهيم‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وقرئ له معاقيب‏.‏ قال أبو الفتح‏:‏ هو تكسير معقب بسكون العين وكسر القاف، كمطعم ومطاعيم، ومقدم ومقاديم، وكان معقباً جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في معاقيب عوضاً من الهاء المحذوفة في معاقبة‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ جمع معقب أو معقبة، والياء عوض من حذف أحد القافين في التكسير‏.‏ وقرئ له معتقبات من اعتقب‏.‏ وقرأ أبي من بين يديه، ورقيب من خلفه‏.‏ وقرأ ابن عباس‏:‏ ورقباء من خلفه، وذكر عنه أبو حاتم أنه قرأ معقبات من خلفه، ورقيب من بين يديه‏.‏ وينبغي حمل هذه القراآت على التفسير، لا أنها قرآن لمخالفتها سواد المصحف الذي أجمع عليه المسلمون‏.‏ والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ من أمر الله متعلق بقوله‏:‏ يحفظونه‏.‏ قيل‏:‏ مِن للسبب كقولك‏:‏ كسرته من عرى، ويكون معناها ومعنى الباء سواء، كأنه قيل‏:‏ يحفظونه بأمر الله وبإذنه، فحفظهم إياه متسبب عن أمر الله لهم بذلك‏.‏ قال ابن جريج‏:‏ يحفظون عليه عمله، فحذف المضاف‏.‏ وقال قتادة‏:‏ يكتبون أقواله وأفعاله‏.‏ وقراءة علي، وابن عباس، وعكرمة، وزيد بن علي، وجعفر بن محمد‏:‏ يحفظونه بأمر الله، يؤيد تأويل السببية في من وفي هذا التأويل‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ يحفظونه من أجل أمر الله تعالى أي‏:‏ من أجل أن الله تعالى أمرهم بحفظه‏.‏ وقال ابن عطية، وقتادة‏:‏ معنى من أمر الله، بأمر الله أي‏:‏ يحفظونه بما أمر الله، وهذا تحكم في التأويل انتهى‏.‏ وليس بتحكم وورود من للسبب ثابت من لسان العرب‏.‏

وقيل‏:‏ يحفظونه من بأس الله ونقمته كقولك‏:‏ حرست زيداً من الأسد، ومعنى ذلك‏:‏ إذا أذن الله لهم في دعائهم أن يمهله رجاء أن يتوب عليه وينيب كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يكلؤكم بالليل والنهار من الرحمن‏}‏ يصير معنى الكلام إلى التضمين أي‏:‏ يدعون له بالحفظ من نقمات الله رجاء توبته‏.‏ ومن جعل المعقبات الحرس، وجعلها في رؤساء الكفار فيحفظونه معناه‏:‏ في زعمه وتوهمه من هلاك الله، ويدفعون قضاءه في ظنه، وذلك لجهالته بالله تعالى، أو يكون ذلك على معنى التهلك به، وحقيقة التهكم هو أن يخبر بشيء ظاهره مثلاً الثبوت في ذلك الوصف، وفي الحقيقة هو منتصف، ولذلك حمل بعضهم يحفظونه على أنه مراد به‏:‏ لا يحفظونه، فحذف لا‏.‏ وعلى هذا التأويل في من تكون متعلقة كما ذكرنا بيحفظونه، وهي في موضع نصب‏.‏ وقال الفراء وجماعة‏:‏ في الكلام تقديم وتأخير أي‏:‏ له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه‏.‏ وروي هذا عن مجاهد، والنخعي، وابن جريج، فيكون من أمر الله في موضع رفع لأنه صفة لمرفوع، ويتعلق إذ ذاك بمحذوف أي‏:‏ كائنة من أمر الله تعالى، ولا يحتاج في هذا المعنى إلى تقدير تقديم وتأخير، بل وصفت المعقبات بثلاث صفات في الظاهر‏:‏ أحدها‏:‏ من بين يديه ومن خلفه أي‏:‏ كائنة من بين يديه‏.‏ والثانية‏:‏ يحفظونه أي‏:‏ حافظات له‏.‏ والثالثة‏:‏ كونها من أمر الله، وإن جعلنا من بين يديه ومن خلفه يتعلق بقوله‏:‏ يحفظونه، فيكون إذ ذاك معقبات وصفت بصفتين‏:‏ إحداهما‏:‏ يحفظونه من بين يديه ومن خلفه‏.‏ والثانية‏:‏ قوله‏:‏ من أمر الله أي‏:‏ كائنة من أمر الله‏.‏ غاية ما في ذلك أنه بدئ بالوصف بالجملة قبل الوصف بالجار والمجرور، وذلك شائع فصيح، وكان الوصف بالجملة الدالة على الديمومة، في الحفظ آكد، فلذلك قدم الوصف بها‏.‏ وذكر أبو عبد الله الرازي في الملائكة الموكلين علينا، وفي الكتبة منهم أقوالاً عن المنجمين وأصحاب الطلمسات، وناس سماهم حكماء الإسلام يوقف على ذلك من تفسيره‏.‏ ولما ذكر تعالى إحاطة علمه بخفايا الأشياء وجلاياها، وأن الملائكة تعقب على المكلفين لضبط ما يصدر منهم، وإن كان الصادر منهم خيراً وشراً، ذكر تعالى أن ما خولهم فيه من النعم وأسبغ عليهم من الإحسان لا يزيله عنهم إلى الانتقام منهم إلا بكفر تلك النعم، وإهمال أمره بالطاعة، واستبدالها بالمعصية‏.‏ فكان في ذكر ذلك تنبيه على لزوم الطاعة، وتحذير لوبال المعصية‏.‏ والظاهر أنْ لا يقع تغير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا الموضع مؤول، لأنه صح الخبر بما قدرت الشريعة من أخذ العامة بذنوب الخاصة وبالعكس، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واتقوا فتنة لا تصيبن‏}‏ الآية‏.‏ ‏"‏ وسؤالهم للرسول صلى الله عليه وسلم‏:‏ أنهلك وفينا الصالحون‏؟‏ قال‏:‏ «نعم إذا كثر الخبث في أشياء كثيرة» ‏"‏

فمعنى الآية‏:‏ حتى يقع تغيير إما منهم، وإما من الناظر لهم، أو ممن هو منهم تسبب، كما غير الله تعالى المنهزمين يوم أحد بسبب تغيير الرماة ما بأنفسهم، إلى غير هذا في أمثله الشريعة‏.‏ فليس معنى الآية أنه ليس ينزل بأحد عقوبة إلا بأن يتقدم منه ذنب، بل قد تنزل المصائب بذنوب الغير‏.‏ وثم أيضاً مصائب يزيد الله بها أجر المصاب، فتلك ليست تغييراً انتهى‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «إذا رأوا الظالم ولم يأخذوا على يديه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وقيل‏:‏ هذا يرجع إلى قوله‏:‏ ‏{‏ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة‏}‏ فبين تعالى أنه لا ينزل بهم عذاب الاستئصال إلا والمعلوم منهم الإصرار على الكفر والمعاصي، إلا إن علم الله تعالى أنّ فيهم، أو في عقبهم من يؤمن، فإنه تعالى لا ينزل بهم عذاب الاستئصال‏.‏ وما موصولة صلتها بقوم، وكذا ما بأنفسهم‏.‏ وفي ما إبهام لا يتغير المراد منها‏:‏ إلا بسياق الكلام، واعتقاد محذوف يتبين به المعنى، والتقدير‏:‏ لا يغير ما بقوم من نعمة وخير إلى ضد ذلك حتى يغيروا ما بأنفسهم من طاعته إلى توالي معصيته‏.‏ والسوء يجمع على كل ما يسوء من مرض وخير وعذاب، وغير ذلك من البلاء‏.‏ ولما كان سياق الكلام في الانتقام من العصاة اقتصر على قوله‏:‏ سوء، وإلا فالسوء والخير إذا أراد الله تعالى شيئاً منها فلا مرد له، فذكر السوء مبالغة في التخويف‏.‏ وقال السدي‏:‏ من وال من ملجأ‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ممن يلي أمرهم، ويدفع عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ من ناصر يمنع من عذابه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 14‏]‏

‏{‏هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ‏(‏12‏)‏ وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ‏(‏13‏)‏ لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

لما خوف تعالى العباد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له‏}‏ أتبعه بما يشتمل على أمور دالة على قدرة الله تعالى، وحكمته تشبه النعم من وجه، والنقم من وجه‏.‏ وتقدم الكلام في البرق والرعد والصواعق والسحاب في البقرة‏.‏ قال ابن عباس والحسن‏:‏ خوفاً من الصواعق، وطمعاً في الغيث‏.‏ وقال قتادة‏:‏ خوفاً للمسافرين من أذى المطر، وطمعاً للمقيم في نفعه‏.‏ وقريب منه ما ذكره الزجاج وهو‏:‏ خوفاً للبلد الذي يخاف ضرر المطر له، وطمعاً لمن يرجو الانتفاع به‏.‏ وذكر الماوردي‏:‏ خوفاً من العقاب، وطمعاً في الثواب‏.‏ وعن ابن عباس وغيره‏:‏ أنه كنى بالبرق عن الماء، لما كان المطر يقاربه غالباً وذلك من باب إطلاق الشيء مجازاً على ما يقاربه غالباً‏.‏ قال الحوفي‏:‏ خوفاً وطمعاً مصدران في موضع الحال من ضمير الخطاب، وجوزه الزمخشري أي‏:‏ خائفين وطامعين، قال‏:‏ ومعنى الخوف والطمع، أن وقوع الصواعق يخوف عند لمع البرق، ويطمع في الغيث‏.‏ قال أبو الطيب‏:‏

فتى كالسحاب الجون يخشى ويرتجى *** يرجى الحيا منه وتخشى الصواعق

وقيل‏:‏ يخاف البرق المطر من له منه ضرر كالمسافر، ومن في جرينته التمر والزبيب، ومن له بيت يكف، ومن البلاد ما لا ينتفع أهله بالمطر كأهل مصر انتهى‏.‏ وقوله الأول في تفسير الخوف والطمع، هو قول ابن عباس والحسن الذي تقدم، وقوله‏:‏ كأهل مصر، ليس كما ذكر، بل ينتفعون بالمطر في كثير من أوقات نمو الزرع، وأنه به ينمو ويجود، بل تمر على الزرع أوقات يتضرر وينقص نموه بامتناع المطر‏.‏ وأجاز الزمخشري أن يكونا منصوبين على الحال من البرق، كأنه في نفسه خوف وطمع، أو على ذا خوف وطمع‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ خوفاً وطمعاً مفعول من أجله‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ لا يصح أن يكون مفعولاً لهما، لأنهما ليسا بفعل الفاعل الفعل المعلل إلا على تقدير حذف المضاف أي‏:‏ إرادة خوف وطمع، أو على معنى إخافة وإطماعاً انتهى‏.‏ وإنما لم يكونا على ظاهرهما بفعل الفاعل الفعل المعلل لأن الإرادة فعل الله، والخوف والطمع فعل للمخاطبين، فلم يتحد الفاعل في الفعل في المصدر‏.‏ وهذا الذي ذكره الزمخشري من شرط اتحاد الفاعل فيهما ليس مجمعاً عليه، بل من النحويين من لا يشترط ذلك، وهو مذهب ابن خروف‏.‏ والسحاب اسم جنس يذكر ويؤنث، ويفرد ويجمع، قال‏:‏ «والنخل باسقات» ولذلك جمع في قوله‏:‏ الثقال، ويعني بالماء، وهو جمع ثقيلة‏.‏ قال مجاهد وقتادة‏:‏ معناه تحمل الماء، والعرب تصفها بذلك‏.‏ قال قيس بن أخطم‏:‏

فما روضة من رياض القطا *** كأن المصابيح جودانها

بأحسن منها ولا مزنة *** ولوح يكشف أوجانها

والدلوج المثقلة، والظاهر إسناد التسبيح إلى الرعد‏.‏

فإن كان مما يصح منه التسبيح فهو إسناد حقيقي، وإن كان مما لا يصح منه فهو إسناد مجازي‏.‏ وتنكيره في قوله‏:‏ ‏{‏فيه ظلمات ورعد وبرق‏}‏ ينفي أن يكون علماً لملك‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ الإخبار بالصوت عن التسبيح مجاز كما يقول القائل‏:‏ قد غمني كلامك‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويسبح سامعو الرعد من العباد الراجين للمطر حامدين له، أي‏:‏ يضجون بسبحان الله والحمد لله‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ سبحان من يسبح الرعد بحمده ‏"‏ وعن علي‏:‏ «سبحان من سبحت له إذا اشتد الرعد»قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم لا تقتلنا بغضبك، ولا تهلكنا بعذابك، وعافنا قبل ذلك ‏"‏ ومن بدع المتصوفة‏:‏ الرعد صعقات الملائكة، والبرق زفرات أفئدتهم، والمطر بكاؤهم انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ وقيل في الرعد أنه ريح يختنق بين السحاب، روى ذلك عن ابن عباس‏.‏ وهذا عندي لا يصح لأنّ هذا نزغات الطبيعيين وغيرهم من الملاحدة‏.‏ وقال أبو عبد الله الرازي‏:‏ إعلم أن المحققين من الحكماء يذكرون أن هذه الآثار العلوية إنما تتم بقوى روحانية فلكية، وللسحاب روح معين من الأرواح الفلكية يدبره، وكذا القول في الرياح، وفي سائر الآثار العلوية‏.‏ وهذا عين ما قلناه أن الرعد اسم لملك من الملائكة يسبح الله تعالى، فهذا الذي قاله المفسرون بهذه العبارة هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فكيف بالعاقل الإنكار‏؟‏ انتهى‏.‏ وهذا الرجل غرضه جريان ما تنتحله الفلاسفة على مناهج الشريعة، وذلك لا يكون أبداً، وقد تقدمت أقوال المفسرين في الرعد في البقرة، فلم يجمعوا على أنّ الرعد اسم لملك‏.‏ وعلى تقدير أن يكون اسماً لملك، لا يلزم أن يكون ذلك الملك يدبر لا السحاب ولا غيره، إذ لا يستفاد مثل هذا إلا من النبي صلى الله عليه وسلم المشهود له بالعصمة، لا من الفلاسفة الضلال‏.‏ والظاهر عود الضمير في قوله‏:‏ من خيفته، على الله تعالى كما عاد عليه في قوله‏:‏ بحمده‏.‏ ومعنى خيفته‏:‏ من هيبته وإجلاله‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الرعد‏.‏ والملائكة أعوانه جعل الله له ذلك فهم خائفون خاضعون طائعون له‏.‏ والرعد وإن كان مندرجاً تحت لفظ الملائكة، فهو تعميم بعد تخصيص انتهى‏.‏ وهو قول ضعيف‏.‏ ومن مفعول فيصيب، وهو من باب الإعمال، أعمل فيه الثاني إذ يرسل يطلب من وفيصيب يطلبه، ولو أعمل الأول لكان التركيب‏:‏ ويرسل الصواعق فيصيب بها على من يشاء، لكن جاء على الكثير في لسان العرب المختار عند البصريين وهو إعمال الثاني‏.‏ ومفعول يشاء محذوف تقديره‏:‏ من يشاء إصابته‏.‏ وفي الخبر أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم بعث إلى جبار من العرب ليسلم فقال‏:‏ أخبرني عن إله محمد‏؟‏ أمن لؤلؤ هو أم من ذهب‏؟‏ فنزلت عليه صاعقة ونزلت الآية فيه‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ ناظر يهودي الرسول صلى الله عليه وسلم، فبينا هو كذلك نزلت صاعقة فأخذت قحف رأسه، فنزلت الآية فيه‏.‏

وقال ابن جريج‏:‏ سبب نزولها لها قصة أربد بن ربيعة وعامر بن الطفيل، وذكر قصتهما المشهورة مضمونها أن عامراً توعد الرسول صلى الله عليه وسلم إذا لم يجبه إلى ما طلب، وأنه وأربد راما الفتك به، فعصمه الله تعالى، وأصاب عامراً بغدّة فمات غريباً، وأربد بصاعقة فقتلته، ولأخيه لبيد فيه عدة مراثٍ منها قوله‏:‏

أخشى على أربد الحتوف ولا *** أرهب نوء السماك والأسد

فجعني البرق والصواعق بالفا *** رس يوم الكريهة النجد

وهذه الصلات الأربع التي وصلت بها الذي تدل على القدرة الباهرة، والتصرف التام في العالم العلوي والسفلي، فالمتصف بها ينبغي أن لا يجادل فيه، وأن يعتقد ما هو عليه من الصفات العلوية، والضمير في وهم يجادلون، عائد على الكفار المكذبين للرسول صلى الله عليه وسلم، المنكرين الآيات، يجادلون في قدرة الله على البعث وإعادة الخلق بقولهم‏:‏ ‏{‏من يحيي العظام وهي رميم‏}‏ وفي وحدانيته باتخاذ الشركاء والانداد‏.‏ ونسبة التوالد إليه بقولهم‏:‏ الملائكة بنات الله تعالى والمعنى‏:‏ أنه عز وجل متصف بهذه الأوصاف، ومع ذلك رتبوا عليها غير مقتضاها من المجادلة فيه وفي أوصافه تعالى، وكان مقتضاها التسليم لما جاءت به الأنبياء‏.‏ وقيل‏:‏ وهم يجادلون حال من مفعول يشاء أي‏:‏ فيصيب بها من يشاء في حال جدالهم كما جرى لليهودي‏.‏ وكذلك الجبار، ولا ربد‏.‏ وهو شديد المحال، جملة حالية من الجلالة‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ المحال بكسر الميم‏.‏ فعن ابن عباس‏:‏ المحال العداوة، وعنه الحقد‏.‏ وعن عليّ‏:‏ الأخذ، وعن مجاهد‏:‏ القوة‏.‏ وعن قطرب‏:‏ الغضب‏.‏ وعن الحسن‏:‏ الهلاك بالمحل، وهو القحط‏.‏ وقرأ الضحاك والأعرج‏:‏ المحال بفتح الميم‏.‏ فعن ابن عباس‏:‏ الحول‏.‏ وعن عبيدة‏:‏ الحيلة‏.‏ يقال‏:‏ المحال والمحالة وهي الحيلة، ومنه قول العرب في مثل‏:‏ المرء يعجز لا المحالة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى شديد العقاب، ويكون مثلاً في القوة والقدرة، كما جاء‏:‏ فساعد الله أشد، وموساه أحدّ، لأنّ الحيوان إذا اشتد غاية كان منعوتاً بشدّة القوة والاضطلاع بما يعجز عنه غيره‏.‏ ألا ترى إلى قولهم‏:‏ فقرته الفواقر، وذلك أنّ الفقار عمود الظهر وقوامه‏.‏ والضمير في له عائد على الله تعالى، ودعوة الحق قال ابن عباس‏:‏ دعوة الحق لا إله إلا الله، وما كان من الشريعة في معناها‏.‏ وقال علي بن أبي طالب، دعوة الحق التوحيد‏.‏ وقال الحسن‏:‏ إن الله هو الحق، فدعاؤه دعوة الحق‏.‏ وقيل‏:‏ دعوة الحق دعاؤه عند الخوف، فإنه لا يدعي فيه إلا هو، كما قال‏:‏ ‏{‏ضل من تدعون إلا إياه‏}‏ قال الماوردي‏:‏ وهو أشبه بسياق الآية‏.‏ وقيل‏:‏ دعوة الطلب الحق أي‏:‏ مرجو الإجابة، ودعاء غير الله لا يجاب، وقال الزمخشري‏:‏ فيه وجهان‏.‏

أحدهما‏:‏ أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيض الباطل، كما تضاف الكلمة إليه في قوله‏:‏ «كلمة الحق» للدلالة على أنّ الدعوة ملابسة للحق مختصة به، وأنها بمعزل من الباطل، والمعنى‏:‏ أن الله سبحانه يدعى فيستجيب الدعوة، ويعطى الداعي سؤله إن كانت مصلحة له، فكانت دعوته ملابسة للحق لكونه حقيقاً بأن يوجه إليه الدعاء، لما في دعوته من الجدوى والنفع، بخلاف ما لا ينفع ولا يجدي دعاؤه‏.‏ والثاني‏:‏ أن تضاف إلى الحق الذي هو الله عز وجل على معنى دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب‏.‏ وعن الحسن رحمه الله‏:‏ الحق هو الله تعالى، وكل دعاء إليه دعوة الحق انتهى‏.‏ وهذا الوجه الثاني الذي ذكره الزمخشري لا يظهر، لأنّ مآله إلى تقدير‏:‏ لله دعوة لله، كما تقول‏:‏ لزيد دعوة زيد، وهذا التركيب لا يصح‏.‏ والذي يظهر أن هذه الإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة كقوله‏:‏ ولدار الآخرة على أحد الوجهين، والتقدير‏:‏ لله الدعوة الحق بخلاف غيره فإنّ دعوتهم باطلة، والمعنى‏:‏ أن الله تعالى الدعوة له هي الدعوة الحق‏.‏ ولما ذكر تعالى جدال الكفار في الله تعالى، وكان جدالهم في إثبات آلهة معه، ذكر تعالى أنه له الدعوة الحق أي‏:‏ من يدعو له فدعوته هي الحق، بخلاف أصنامهم التي جادلوا في الله لأجلها، فإن دعاءها باطل لا يتحصل منه شيء‏.‏ فقال‏:‏ ‏{‏والذين يدعون‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ والآلهة الذين يدعونهم الكفار من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء من طلباتهم إلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي‏:‏ كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه، يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد لا يشعر ببسط كفيه ولا بعطشه وحاجته إليه، ولا يقدر أن يجيب دعاءه ويبلغ فاه‏.‏ وكذلك ما يدعونه جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم‏.‏ وقيل‏:‏ شبهوا في قلة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسطهما ناشراً أصابعه فلم تبق كفاه منه شيئاً، ولم يبلغ طلبته من شربه انتهى‏.‏ فالضمير في يدعون عائد على الكفار، والعائد على الذين محذوف أي‏:‏ يدعونهم‏.‏ ويؤيده قراءة من قرأ بالتاء في تدعون، وهي قراءة اليزيدي عن أبي عمر‏.‏ وقيل‏:‏ الذين أي‏:‏ الكفار الذين يدعون، ومفعول يدعون محذوف أي‏:‏ يدعون الأصنام‏.‏ والعائد على الذين الواو في يدعون، والواو في لا يستجيبون عائد في هذا القول على مفعول يدعون المحذوف، وعلى القول الأول على الذين‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كالناظر إلى خياله في الماء يريد تناوله، فكذا المحتاج يخيل إليه في الاحتياج إليه خيال الاحتياج إليه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ كمن بسط يديه إلى الماء ليصل إليه بلا اغتراف‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ أي كالقابض على الماء ليس على شيء، قال‏:‏ والعرب تضرب المثل في الساعي فيما لا يدركه بالقابض على الماء، وأنشد سيبويه‏:‏

فأصبحت فيما كان بيني وبينها *** من الود مثل القابض الماء في اليد

وقال آخر‏:‏

وإني وإياكم وشوقاً إليكم *** كقابض ماء لم تسعه أنامله

وقيل‏:‏ شبه الكفار في دعائهم لأصنامهم عند ضرورتهم برجل عطشان لا يقدر على الماء، جلس على شفير بئر يدعو الماء ليبل غلته، فلا هو يبلغ قعر البئر إلى الماء، ولا الماء يرتفع إليه لأنه جماد ولا يحس بعطشه ودعائه، كذلك ما يدعو الكفار من الأوثان جماد لا يحس بدعائهم، ولا يستطيع إجابتهم، ولا يقدر على نفعهم انتهى‏.‏ والكاف في موضع نصب أي‏:‏ مثل استجابة، واستجابة مضافة في التقدير إلى باسط، وهي إضافة المصدر إلى المفعول‏.‏ وفاعل المصدر محذوف تقديره‏:‏ كإجابة الماء من يبسط كفيه إليه، فلما حذف أظهر في قوله‏:‏ إلى الماء، ولو كان ملفوظاً به لعاد الضمير إليه، فكان يكون التركيب كفيه إليه‏.‏ هذا الذي يقدر من كلام الزمخشري في هذا التشبيه، وتبعه أبو البقاء‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ومعنى الكلام الذي يدعونهم الكفار إلى حوائجهم ومنافعهم لا يجيبون، ثم مثل تعالى مثالاً لإجابتهم بالذي يبسط كفيه إلى الماء ويشير إليه بالإقبال، فهو لا يبلغ فمه أبداً، فكذلك إجابة هؤلاء والانتفاع بهم لا يقع انتهى‏.‏ وفاعل ليبلغ ضمير الماء، وليبلغ متعلق بباسط، وما هو أي‏:‏ وما الماء ببالغه، أي‏:‏ ببالغ الفم‏.‏ ويجوز أن يكون هو ضمير الفم، والهاء في ببالغه للماء أي‏:‏ وما الفم ببالغ الماء، لأنّ كلاًّ منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالة‏.‏ وقرئ‏:‏ كباسط كفيه بتنوين باسط‏.‏ وما دعاء الكافرين إلا في ضلال أي‏:‏ في حيرة، أو في اضمحلال، لأنه لا يجدي شيئاً ولا يفيد، فقد ضل ذلك الدعاء عنهم كما ضل المدعون‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏أين ما كنتم تدعون من دون الله قالوا ضلوا‏}‏ قال الزمخشري‏:‏ إلا في ضياع لا منفعة فيه، لأنهم إن دعوا الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم نستطع إجابتهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ أصوات الكافرين محجوبة عن الله فلا يسمع دعاؤهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 16‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏15‏)‏ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ‏(‏16‏)‏‏}‏

إن كان السجود بمعنى الخضوع والانقياد، فمن عمومها ينقاد كلهم إلى ما أراده تعالى بهم شاؤوا أو أبوا، وتنقاد له تعالى ظلالهم حيث هي على مشيئته من الامتداد والتقلص، والفيء والزوال، وإن كان السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة‏:‏ وهو وضع الجبهة بالمكان الذي يكون فيه الواضع، فيكون عاماً مخصوصاً إذ يخرج منه من لا يسجد، ويكون قد عبر بالطوع عن سجود الملائكة والمؤمنين، وبالكره عن سجود من ضمه السيف إلى الإسلام كما قاله قتادة‏:‏ فيسجد كرهاً وإما نفاقاً، أو يكون الكره أول حاله، فتستمر عليه الصفة وإن صح إيمانه بعد‏.‏ وقيل‏:‏ طوعاً لا يثقل عليه السجود، وكرهاً يثقل عليه، لأنّ إلزام التكاليف مشقة‏.‏ وقيل‏:‏ من طالت مدة إسلامه، فألف السجود‏.‏ وكرهاً من بدا بالإسلام إلى أن يألف السجود قاله ابن الأنباري‏.‏ وقيل‏:‏ هو عام على تقدير كون السجود عبارة عن الهيئة المخصوصة، وذلك بأن يكون يسجد صيغته صيغة الخبر، ومدلوله أثر‏.‏ أو يكون معناه‏:‏ يجب أن يسجد له كل من في السموات والأرض، فعبر عن الوجوب بالوقوع‏.‏ والذي يظهر أنّ مساق هذه الآية إنما هو أنّ العالم كله مقهور لله تعالى، خاضع لما أراد منه، مقصور على مشيئته، لا يكون منه إلا ما قدر تعالى‏.‏ فالذين تعبدونهم كائناً ما كانوا داخلون تحت القهر، ويدل على هذا المعنى تشريك الظلال في السجود‏.‏ والظلال ليست أشخاصاً يتصور منها السجود بالهيئة المخصوصة، ولكنها داخلة تحت مشيئته تعالى يصرفها على ما أراد، إذ هي من العالم‏.‏ فالعالم جواهره وأعراضه داخلة تحت إرادته كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين والشمائل سجداً لله‏}‏ وكون الظلال يراد بها الأشخاص كما قال بعضهم ضعيف، وأضعف منه قول ابن الأنباري‏:‏ إنه تعالى جعل للظلال عقولاً تسجد بها وتخشع بها، كما جعل للجبال أفهاماً حتى خاطبت وخوطبت، لأنّ الجبل يمكن أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأما الظل فعرض لا يتصور قيام الحياة به، وإنما معنى سجود الظلال ميلها من جانب إلى جانب كما أراد تعالى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ الظل مصدر يعني في الأصل، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم، وطوله بسبب انحطاط الشمس، وقصره بسبب ارتفاعها، فهو منقاد لله تعالى في طوله وقصره وميله من جانب إلى جانب‏.‏ وخص هذان الوقتان بالذكر لأنّ الظلال إنما تعظم وتكثر فيهما، وتقدم شرح الغدوّ والآصال في آخر الأعراف‏.‏ روي أن الكافر إذا سجد لصنمه كان ظله يسجد لله حينئذ‏.‏

وقرأ أبو مجلز‏:‏ والإيصال‏.‏ قال ابن جني‏:‏ هو مصدر أصل أي‏:‏ دخل في الأصيل كما تقول‏:‏ أصبح أي دخل في الاصباح‏.‏

ولما كان السؤال عن أمر واضح لا يمكن أن يدفع منه أحد، كان جوابه من السائل‏.‏ فكان السبق إليه أفصح في الاحتجاج إليهم وأسرع في قطعهم في انتظار الجواب منهم، إذ لا جواب إلا هذا الذي وقعت المبادرة إليه، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏قل من يرزقكم من السموات والأرض قل الله‏}‏ ويبعد ما قال مكي من أنهم جهلوا الجواب فطلبوه من جهة السائل فأعلمهم به السائل، لأنه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله‏}‏ فإذا كانوا مقرين بأنّ منشئ السموات والأرض ومخترعها هو الله، فكيف يقال‏:‏ بأنهم جهلوا الجواب فطلبوه من السائل‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ قل الله حكاية لاعتراقهم تأكيد له عليهم، لأنه إذا قال لهم‏:‏ من رب السموات والأرض‏؟‏ لم يكن لهم بد من أن يقولوا‏:‏ الله، كقوله ‏{‏قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون الله‏}‏ وهذا كما يقول المناظر لصاحبه‏:‏ أهذا قولك‏؟‏ فإذا قال‏:‏ هذا قولي، قال‏:‏ هذا قولك، فيحكي إقراره تقريراً عليه واستئنافاً منه، ثم يقول له‏:‏ فيلزمك على هذا القول كيت وكيت‏.‏ ويجوز أن يكون تلقيناً أي‏:‏ إنْ كفوا عن الجواب فلقنهم، فإنهم يتلقنونه ولا يقدرون أن ينكروه‏.‏ وقال الكرماني‏:‏ قل يا محمد للكفار من رب السموات والأرض‏؟‏ استفهام تقرير واستنطاق بأنهم يقولون الله، فإذا قالوها قل‏:‏ الله، أي هو كما قلتم‏.‏ وقيل‏:‏ فإن جابوك وإلا قل‏:‏ الله، إذ لا جواب غير هذا انتهى‏.‏ وهو تلخيص القولين اللذين قالهما الزمخشري‏.‏ وقال البغوي‏:‏ روي أنه لما قال هذا للمشركين عطفوا عليه فقالوا‏:‏ أجب أنت، فأمره الله فقال‏:‏ قل الله انتهى‏.‏ واستفهم بقوله‏:‏ قل أفاتخذتم‏؟‏ على سبيل التوبيخ والإنكار، أي‏:‏ بعد أن علمتم أنه تعالى هو رب السموات والأرض تتخذون من دونه أولياء وتتركونه، فجعلتم ما كان يجب أن يكون سبباً للتوحيد من علمكم وإقراركم سبباً للإشراك، ثم وصف تلك الأولياء بصفة العجز وهي كونها لا تملك لانفسها نفعاً ولا ضراً، ومن بهذه المثابة فكيف يملك لهم نفعاً أو ضراً‏؟‏ ثم مثل ذلك حالة الكافر والمؤمن، ثم حالة الكفر والإيمان، وأبرز ذلك في صورة الاستفهام للذي يبادر المخاطب إلى الجواب فيه من غير فكر ولا روية بقوله‏:‏ قل هل يستوي الأعمى والبصير‏؟‏ ثم انتقل إلى الاستفهام عن الوصفين القائمين بالكافر وهو‏:‏ الظلمات، وبالمؤمن وهو النور‏.‏ وتقدم الكلام في جمع الظلمات وإفراد النور في سورة البقرة‏.‏

وقرأ الأخوان وأبو بكر‏:‏ أم هل يستوي بالياء، والجمهور بالتاء، أم في قوله‏:‏ أم، هل منقطعة تتقدر ببل‏؟‏ والهمزة على المختار، والتقدير‏:‏ بل أهل تستوي‏؟‏ وهل وإن نابت عن همزة الاستفهام في كثير من المواضع فقد جامعتها في قول الشاعر‏:‏

أهل رأونا بوادي القفر ذي الاكم *** وإذا جامعتها مع التصريح بها فلأنّ تجامعها مع أم المتضمنة لها أولى، وهل بعد أم المنقطعة يجوز أن يؤتى بها لشبهها بالأدوات الإسمية التي للاستفهام في عدم الأصالة فيه كقوله‏:‏

‏{‏أمّن يملك السمع والأبصار‏}‏ ويجوز أن لا يؤتى بها بعد أم المنقطعة، لأن أم تتضمنها، فلم يكونوا ليجمعوا بين أم والهمزة لذلك‏.‏ وقال الشاعر في عدم الإتيان بهل بعد أم والإتيان بها‏:‏

هل ما علمت وما استودعت مكتوم *** أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم

أم هل كبير بكى لم يقض عبرته *** إثر الأحبة يوم البين مشكوم

ثم انتقل من خطابهم إلى الإخبار عنهم غائباً إعراضاً عنهم، وتنبيهاً على توبيخهم في جعل شركاء لله، وتعجيباً منهم، وإنكاراً عليهم‏.‏ وتضمن هذا الاستفهام التهكم بهم، لأنّهُ معلوم بالضرورة أن هذه الأصنام وما اتخذوها من دون الله أولياء، وجعلوهم شركاء لا تقدر على خلق ذرة، ولا إيجاد شيء البتة، والمعنى‏:‏ أن هؤلاء الشركاء هم خالقون شيئاً حت يستحقوا العبادة، وجعلهم شركاء لله أي‏:‏ جعلوا لله شركاء موصوفين بالخلق مثل خلق الله، فتشابه ذلك عليهم، فيعبدونهم‏.‏ ومعلوم أنهم لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون فكيف يشركون في العبادة‏؟‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ ثم أمره تعالى فقال‏:‏ قل الله خالق كل شيء أي‏:‏ موجد الأشياء كلها معبوداتهم وغيرها، وهم أيضاً مقرون بذلك، ‏{‏ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولنّ الله‏}‏ واحتمل أن يكون قوله‏:‏ وهو الواحد القهار، داخلاً تحت الأمر بقل، فيكون قد أمر أن يخبر بأنه تعالى هو الواحد المنفرد بالألوهية، القهار الذي جميع الأشياء تحت قدرته وقهره‏.‏ واحتمل أن يكون استئناف إخبار فيه يقال بهذين الوصفين‏:‏ الوحدانية، والقهر‏.‏ فهو تعالى لا يغالب، وما سواه مقهور مربوب له عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏17- 18‏]‏

‏{‏أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ ‏(‏17‏)‏ لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ‏(‏18‏)‏‏}‏

قال الزمخشري‏:‏ هذا مثل ضربه الله للحق وأهله، والباطل وحزبه، كما ضرب الأعمى والبصير، والظلمات والنور، مثلاً لهما‏.‏ فمثل الحق وأهله بالماء الذي ينزل من السماء فتسيل به أودية للناس فيحيون به وينفعهم أنواع المنافع، وبالفلز الذي ينتفعون به في صوغ الحلى منه واتخاذ الأواني والآلات المختلفة، ولو لم يكن إلا الحديد الذي فيه البأس الشديد لكفى فيه، وإن ذلك ماكث في الأرض باق بقاء ظاهراً يثبت الماء في منافعه، وتبقى آثاره في العيون والبئار والجبوب والثمار التي تنبت به مما يدخر ويكثر، وكذلك الجواهر تبقى أزمنة متطاولة‏.‏ وشبه الباطل في سرعة اضمحلاله ووشك زواله وانسلاخه عن المنفعة بزبد السيل الذي يرمي به، وبزبد الفلز الذي يطفو فوقه إذا أذيب‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ صدر هذه الآية تنبيه على قدرة الله تعالى، وإقامة الحجة على الكفرة به، فلما فرغ ذكر ذلك جعله مثالاً للحق والباطل، والإيمان والكفر، والشك في الشرع واليقين به انتهى‏.‏ وقيل‏:‏ هذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن، والقلوب، والحق، والباطل‏.‏ فالماء مثل القرآن لما فيه من حياة القلوب، وبقاء الشرع والدين والأودية مثل للقلوب، ومعنى بقدرها على سعة القلوب وضيقها، فمنها ما انتقع به فحفظه ووعاه وتدبر فيه، فظهرت ثمرته وأدرك تأويله ومعناه، ومنها دون ذلك بطبقة، ومنها دونه بطبقات‏.‏ والزبد مثل الشكوك والشبه وإنكار الكافرين إنه كلام الله، ودفعهم إياه بالباطل‏.‏ والماء الصافي المنتفع به مثل الحق انتهى‏.‏ وفي الحديث الصحيح ما يؤيد هذا التأويل وهو قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «مثل ما بعثت به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً وكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء وأنبتت الكلأ والعشب الكثير وكانت منها طائفة أجادب فأمسكت الماء فانتفع الناس به وسقوا ورعوا وكانت منها قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ فذلك مثل ما جئت به من العلم والهدى ومثل من لم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» وقال ابن عطية‏:‏ وروي عن ابن عباس أنه قال‏:‏ قوله تعالى أنزل من السماء ماء، يريد به الشرع والدين، فسالت أودية يريد القلوب، أي‏:‏ أخذ النبيل بحظه، والبليد بحظه، وهذا قول لا يصح والله أعلم عن ابن عباس، لأنه ينحو إلى أقوال أصحاب الرموز، وقد تمسك به الغزالي وأهل تلك الطريق، ولا توجيه لإخراج اللفظ عن مفهوم كلام العرب بغير علة تدعو إلى ذلك، والله الموفق للصواب‏.‏ وإن صح هذا القول عن ابن عباس، فإنما قصد أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يضرب الله الحق والباطل‏}‏، معناه‏:‏ الحق الذي يتقرر في القلوب، والباطل الذي يعتريها أيضاً انتهى‏.‏ والماء المطر‏.‏

ونكر أودية لأنّ المطر إنما يدل على طريق المناوبة، فتسيل بعض الأودية دون بعض‏.‏ ومعنى بقدرها أي‏:‏ على قدر صغرها وكبرها، أو بما قدر لها من الماء بسبب نفع الممطور عليهم لا ضررهم‏.‏ ألا ترى إلى قوله‏:‏ وأما ما ينفع الناس، فالمطر مثل للحق، فهو نافع خال من الضرر‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ بقدرها بفتح الدال‏.‏ وقرأ الأشهب العقيلي، وزيد بن علي، وأبو عمرو في رواية‏:‏ بسكونها‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ بقدرها متعلق بسالت‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ بقدرها صفة لأودية، وعرف السيل لأنه عنى به ما فهم من الفعل، والذي يتضمنه الفعل من المصدر هو نكرة، فإذا عاد عليه الظاهر كان معرفة، كما كان لو صرح به نكرة، ولذلك تضمن إذا عاد ما دل عليه الفعل من المصدر نحو‏:‏ من كذب كان شراً له أي‏:‏ كان الكذب شراً له، ولو جاء هنا مضمراً لكان جائزاً عائداً على المصدر المفهوم من فسالت‏.‏ واحتمل بمعنى حمل، جاء فيه افتعل بمعنى المجرد كاقتدر وقدر‏.‏ ورابياً منتفخاً عالياً على وجه السيل، ومنه الربوة‏.‏ ومما توقدون عليه أي‏:‏ ومن الأشياء التي توقدون عليها وهي الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، والرصاص، والقصدير، ونحوها مما يوقد عليه وله زبد‏.‏ وقرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن محيصن، ومجاهد، وطلحة، ويحيى، وأهل الكوفة‏:‏ يوقدون بالياء على الغيبة، أي يوقد الناس‏.‏ وقرأ باقي السبعة والحسن، وأبو جعفر، والأعرج، وشيبة‏:‏ بالتاء على الخطاب وعليه متعلق بتوقدون وفي النار‏.‏ قال أبو علي، والحوفي‏:‏ متعلق بتوقدون‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ قد يوقد على كل شيء وليس في النار كقوله‏:‏ ‏{‏فأوقد لي يا هامان على الطين‏}‏ فذلك البناء الذي أمر به يوقد عليه، وليس في النار، لكن يصيبه لهبها‏.‏ وقال مكي وغيره‏:‏ في النار متعلق بمحذوف تقديره‏:‏ كائناً، أو ثابتاً‏.‏ ومنعوا تعليقه بقوله‏:‏ توقدون، لأنهم زعموا أنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، وتعليق حرف الجر بتوقدون يتضمن تخصيص حال من حال أخرى انتهى‏.‏ ولو قلنا‏:‏ إنه لا يوقد على شيء إلا وهو في النار، لجاز أن يكون متعلقاً بتوقدون، ويجوز ذلك على سبيل التوكيد كما قالوا في قوله‏:‏ يطير بجناحيه، وانتصب ابتغاء على أنه مفعول من أجله، وشروط المفعول من أجله موجودة فيه‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ هو مصدر في موضع الحال أي‏:‏ مبتغين حلية، وفي ذكر متعلق ابتغاء تنبيه على منفعة ما يوقدون عليه‏.‏ والحلية ما يعمل للنساء مما يتزين به من الذهب والفضة، والمتاع ما يتخذ من الحديد والنحاس وما أشبههما من الآلات التي هي قوام العيش كالأواني، والمساحي، وآلات الحرب، وقطاعات الأشجار، والسكك، وغير ذلك‏.‏ وزبد مرفوع بالابتداء، وخبره في قوله‏:‏ ومما توقدون‏.‏ ومِن الظاهر أنها للتبعيض، لأن ذلك الزبد هو بعض ما يوقد عليه من تلك المعادن‏.‏

وأجاز الزمخشري أن تكون مِن لابتداء الغاية أي‏:‏ ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماء، والمماثلة في كونهما يتولدان من الأوساخ والأكدار، والحق والباطل على حذف مضاف أي‏:‏ مثل الحق والباطل‏.‏ شبه الحق بما يخلص من جرم هذه المعادن من الأقذار والخبث ودوام الانتفاع بها، وشبه الباطل بالزبد والمجتمع من الخبث والأقذار، ولا بقاء له ولا قيمة‏.‏ وفصل ما سبق ذكره مما ينتفع به ومن الزبد، فبدأ بالزبد إذ هو المتأخر في قوله‏:‏ زبداً رابياً، وفي قوله‏:‏ زبد مثله، ولكون الباطل كناية عنه وصف متأخر، وهي طريقة فصيحة يبدأ في التقسيم بما ذكر آخراً كقوله‏:‏ ‏{‏يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم‏}‏ والبداءة بالسابق فصيحة مثل قوله‏:‏ ‏{‏فمنهم شقي وسعيد‏}‏ ‏{‏فأما الذين شقوا ففي النار‏}‏ وكأنه والله أعلم يبدأ في التفصيل بما هو أهم في الذكر‏.‏ وانتصب جفاء على الحال أي‏:‏ مضمحلاً متلاشياً لا منفعة فيه ولا بقاء له‏.‏ والزبد يراد به ما سبق من ما احتمله السيل وما خرج من حيث المعادن، وأفرد الزبد بالذكر ولم يثن، وإن تقدم زبدان لاشتراكهما في مطلق الزبدية، فهما واحد باعتبار القدر المشترك‏.‏ وقرأ رؤبة‏:‏ جفالاً باللام بدل الهمزة من قولهم‏:‏ جفلت الريح السحاب إذا حملته وفرقته‏.‏ وعن أبي حاتم‏:‏ لا يقرأ بقراءة رؤبة، لأنه كان يأكل الفار بمعنى‏:‏ أنه كان أعرابياً جافياً‏.‏ وعن أبي حاتم أيضاً‏:‏ لا تعتبر قراءة الأعراب في القرآن‏.‏ وأما ما ينفع الناس أي‏:‏ من الماء الخالص من الغناء ومن الجوهر المعدني الخالص من الخبث أي‏:‏ مثل ذلك الضرب كمثل الحق والباطل‏.‏ يضرب الله الأمثال، والظاهر أنه لما ضرب هذا المثل للحق والباطل انتقل إلى ما لأهل الحق من الثواب، وأهل الباطل من العقاب، فقال‏:‏ للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي‏:‏ الذين دعاهم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم فأجابوا إلى ما دعاهم إليه من اتباع دينه الحالة الحسنى، وذلك هو النصر في الدنيا وما اختصوا به من نعمة الله، ودخول الجنة في الآخرة‏.‏ فالحسنى مبتدأ، وخبره في قوله‏:‏ للذين‏.‏ والذين لم يستجيبوا مبتدأ، خبره ما بعده‏.‏ وغاير بين جملتي الابتداء لما يدل عليه تقديم الجار والمجرور في الاعتناء والاهتمام، وعلى رأي الزمخشري من الاختصاص أي‏:‏ لهؤلاء الحسنى لا لغيرهم‏.‏ ولأن قراءة شيوخنا يقفون على قوله الأمثال، ويبتدئون للذين‏.‏ وعلى هذا المفهوم أعرب الحوفي الحسني مبتدأ، وللذين خبره، وفسر ابن عطية وفهم السلف‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ جزاء الحسنى وهي لا إله إلا الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الحياة الحسنى ما في الطيبة‏.‏ وقيل‏:‏ الجنة لأنها في نهاية الحسنى‏.‏ وقيل‏:‏ المكافأة أضعافاً‏.‏ وعلق الزمخشري للذين بقوله يضرب فقال‏:‏ للذين استجابوا متعلقة بيضرب أي‏:‏ كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا، وللكافرين الذين لم يستجيبوا أي‏:‏ هما مثلاً الفريقين‏.‏

والحسنى صفة لمصدر استجابوا أي‏:‏ استجابوا الاستجابة الحسنى‏.‏ وقولهم‏:‏ لو أن لهم كلام مبتدأ، ذكر ما أعد لغير المستجيبين انتهى‏.‏ والتفسير الأول أولى، لأنه فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد ضرب أمثالاً كثيرة في هذين وفي غيرهما، ولأنه فيه ذكر ثواب المستجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب، ذكر ما للمستجيبين من الثواب‏.‏ ولأنّ تقديره الاستجابة الحسنى مشعر بتقييد الاستجابة، ومقابلتها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله تعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً‏.‏ ولأنه على قوله يكون قوله‏:‏ لو أن لهم ما في الأرض جميعاً، كلاماً مفلتاً مما قبله، أو كالمفلت، إذ يصير المعنى‏:‏ كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين والكافرين‏.‏ لو أن لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحرف رابط لو بما قبلها زال التفلت، وأيضاً فيوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً لهم‏.‏ وأيضاً فقد جاء هذا التركيب، وتقدم تفسير مثل قوله‏:‏ لو أن لهم ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به، وسوء الحساب قال ابن عباس‏:‏ أن لا تقبل حسناتهم ولا تغفر سيئاتهم‏.‏ وقال النخعي‏:‏ وشهد وفرقران يحاسب على ذنوبه كلها، ويحاسب ويؤاخذ بها من غير أن يغفر له شيء‏.‏ وقال أبو الجوزاء‏:‏ المناقشة‏.‏ وقيل‏:‏ للتوبيخ عند الحساب والتقريع، وتقدم تفسير مثل ‏{‏ومأواهم جهنم وبئس المهاد‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ‏(‏19‏)‏ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ ‏(‏21‏)‏ وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏22‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ ‏(‏23‏)‏ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ‏(‏24‏)‏‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت أفمن يعلم في حمزة وأبي جهل‏.‏ وقيل‏:‏ في عمر بن الخطاب وأبي جهل‏.‏ وقيل‏:‏ في عمار بن ياسر وأبي جهل‏.‏ قرأ زيد بن علي‏:‏ أو من بالواو بدل الفاء، إنما أنزل مبنياً للفاعل‏.‏ ولما ذكر تعالى مثل المؤمن والكافر، وذكر ما للمؤمن من الثواب، وما للكافر من العقاب، ذكر استبعاد من يجعلها سواء وأنكر ذلك فقال‏:‏ أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى أي‏:‏ ليسا مشتبهين، لأنّ العالم بالشيء بصير به، والجاهل به كالأعمى، والمراد أعمى البصيرة ولذلك قابله بالعلم‏.‏ والهمزة للاستفهام المراد به‏:‏ إنكار أن تقع شبهة بعدما ضرب من المثل في أن حال من علم إنما أنزل إليك من ربك الحق فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد والماء، والخبث والإبريز‏.‏ ثم ذكر أنه لا يتذكر بالموعظة، وضرب الأمثال إلا أصحاب العقول‏.‏ والفاء للعطف، وقدمت همزة الاستفهام لأنه صدر الكلام والتقدير‏:‏ فأمن يعلم، ويبعدها أن يكون فعل محذوف بين الهمزة والفاء عاطفة ما بعدها على ذلك الفعل، كما قدره الزمخشري في قوله‏:‏ ‏{‏أفلم يسيروا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفلا يعقلون‏}‏ وجوزوا في الذين أنْ يكون بدلاً من أولوا، أو صفة له، وصفة لمن من قوله‏:‏ أفمن يعلم وإنما يتذكر اعتراض، ومبتدأ خبره أولئك لهم عقبى الدار كقوله‏:‏ ‏{‏والذين ينقضون عهد الله‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏أولئك لهم اللعنة‏}‏ والظاهر عموم العهد‏.‏ وقيل‏:‏ هو خاص، فقال السدي‏:‏ ما عهد إليهم في القرآن‏.‏ وقال قتادة‏:‏ في الأزل، وهو قوله‏:‏ ‏{‏ألست بربكم قالوا بلى‏}‏ وقال القفال‏:‏ ما في حيلتهم وعقولهم من دلائل التوحيد والنبوات‏.‏ وقيل‏:‏ في الكتب المتقدمة والقرآن‏.‏ وقيل‏:‏ المأخوذ على ألسنة الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، والظاهر إضافة العهد إلى الفاعل أي‏:‏ بما عهد الله‏.‏ والظاهر أن قوله‏:‏ ولا ينقضون الميثاق، جملة توكيدية لقوله‏:‏ يوفون بعهد الله، لأن العهد هو الميثاق، ويلزم من إيفاء العهد انتفاء نقيضه‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وعهد الله ما عقدوه على أنفسهم من الشهادة بربوبيته، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى‏.‏ ولا ينقضون الميثاق، ولا ينقضون كل ما وثقوه على أنفسهم وقبلوه من الإيمان بالله تعالى، وغيره من المواثيق بينهم وبين الله تعالى وبين العباد تعميم بعد تخصيص انتهى‏.‏ فأضاف العهد إلى المفعول، وغاير بين الجملتين بكون الثانية تعميماً بعد تخصيص انتهى‏.‏ إذ أخذ الميثاق عام بينهم وبين الله وبين العباد‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ بعهد الله اسم الجنس أي‏:‏ بجميع عهود الله، وبين أوامره ونواهيه التي وصى بها عبيده‏.‏ ويدخل في هذه الألفاظ التزام جميع الفروض، وتجنب جميع المعاصي‏.‏ وقوله‏:‏ ولا ينقضون الميثاق‏.‏

أي‏:‏ إذا اعتقدوا في طاعة الله عهداً لم ينقضوه‏.‏ قال قتادة‏:‏ وتقدم وعيد الله إلى عباده في نقض الميثاق ونهى عنه في بضع وعشرين آية، ويحتمل أنه يشير إلى ميثاق معين وهو الذي أخذه تعالى على ظهر أبيهم آدم عليه السلام انتهى‏.‏

وقال ابن العربي‏:‏ من أعظم المواثيق في الذكر أن لا يسأل سواه، وذكر قصة أبي حمزة الخراساني وقوعه في البئر، ومرور الناس عليه، وتغطيتهم البئر وهو لا يسألهم أن يخرجوه، إلى أن جاء من أخرجه بغير سؤال، ولم ير من أخرجه، وهتف به هاتف‏:‏ كيف رأيت ثمرة التوكل‏؟‏ قال ابن العربي‏:‏ هذا رجل عاهد الله فوجد الوفاء على التمام، فاقتدوا به‏.‏ وقد أنكر أبو الفرج بن الجوزي فعل أبي حمزة هذا وبين خطأه، وأن التوكل لا ينافي الاستغاثة في تلك الحال‏.‏ وذكر أنّ سفيان الثوري وغيره قالوا‏:‏ إن إنساناً لو جاع فلم يسأل حتى مات دخل النار‏.‏ ولا ينكر أن يكون الله تعالى لطف بأبي حمزة الجاهل‏.‏

وما أمر الله به أن يوصل ظاهره العموم في كل ما أمر به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقال الحسن‏:‏ المراد به صلة الرسول صلى الله عليه وسلم بالإيمان به، وقال نحوه ابن جبير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ صلة الإيمان بالعمل‏.‏ وقيل‏:‏ صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، ومراعاة حق الجيران، والرفقاء، والأصحاب، والخدم‏.‏ وقيل‏:‏ نصرة المؤمنين‏.‏ وأمر يتعدى إلى اثنين بحرف جر وهو به، والأول محذوف تقديره‏:‏ ما أمرهم الله به‏.‏ وأن يوصل في موضع جر بدل من الضمير أي‏:‏ بوصله‏.‏ ويخشون ربهم أي‏:‏ وعيده كله‏.‏ ويخافون سوء الحساب أي‏:‏ استقصاءه فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا‏.‏ وقيل‏:‏ يخشون ربهم يعظمونه‏.‏ وقيل‏:‏ في قطع الرحم‏.‏ وقيل‏:‏ في جميع المعاصي‏.‏ وقيل‏:‏ فيما أمرهم بوصله‏.‏ وصبروا مطلق فيما يصبر عليه من المصائب في النفوس والأموال، وميثاق التكليف‏.‏ وجاءت الصلة هنا بلفظ الماضي، وفي الموصلين قبل بلفظ المضارع في قوله‏:‏ الذين يوفون، والذين يصلون، وما عطف عليهما على سبيل التفنن في الفصاحة، لأنّ المبتدأ هنا في معنى اسم الشرط بالماضي كالمضارع في اسم الشرط، فكذلك فيما أشبهه، ولذلك قال النحويون‏:‏ إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي، وأن يراد به الاستقبال‏.‏ فمن المراد به المضي في الصلة ‏{‏الذين قال لهم الناس‏}‏ ومن المراد به الاستقبال ‏{‏إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم‏}‏ ويظهر أيضاً أن اختصاص هذه الصلة بالماضي وتينك بالمضارع، أن تينك الصلتين قصد بهما الاستصحاب والالتباس دائماً، وهذه الصلة قصد بها تقدمها على تينك الصلتين، وما عطف عليهما، لأنّ حصول تلك الصلات إنما هي مترتبة على حصول الصبر وتقدمه عليها، ولذلك لم تأت صلة في القرآن إلا بصيغة الماضي، إذ هو شرط في حصول التكاليف وإيقاعها والله أعلم‏.‏

وانتصب ابتغاء قيل‏:‏ على أنه مصدر في موضع الحال، والأولى أن يكون مفعولاً لأجله أي‏:‏ إنّ صبرهم هو لابتغاء وجه الله خالصاً، لا لرجاء أن يقال‏:‏ ما أصبره، ولا مخافة أن يعاب بالجزع، أو تشمت به الأعداء، كما قال‏:‏

وتجلدي للشامتين أريهم *** أني لريب الدهر لا أتضعضع

ولأنّ الجزع لا طائل تحته، أو يعلم أنه لا مرد لما فات ولا لما وقع‏.‏ والظاهر في معنى الوجه هنا جهة الله أي‏:‏ الجهة التي تقصد عنده تعالى بالحسنات لتقع عليها المثوبة، كما تقول‏:‏ خرج زيد لوجه كذا‏.‏ ونبه على هاتين الخصلتين‏:‏ العبادة البدنية، والعبادة المالية، إذ هما عمود الدين، والصبر عليهما أعظم صبر لتكرر الصلوات، ولتعلق النفوس بحب تحصيل المال‏.‏ ونبه على حالتي الإنفاق، فالسر أفضل حالات إنفاق التطوع كما جاء في «السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها» والعلانية أفضل حالات إنفاق الفروض، لأنّ الإظهار فيها أفضل‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ مما رزقناهم من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقاً، ولا يسند إلى الله انتهى‏.‏ وهذا على طريق المعتزلة‏.‏

وللسلف هنا في الصبر أقوال متقاربة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ صبروا على أمر الله‏.‏ وقال أبو عمران الجوني‏:‏ صبروا على دينهم‏.‏ وقال عطاء‏:‏ صبروا على الرزايا والمصائب‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ صبروا على الطاعة وعن المعصية، ويدرؤون يدفعون‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ الشر بالخير‏.‏ وقال قتادة‏:‏ ردوا عليهم معروفاً كقوله‏:‏ ‏{‏وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلام‏}‏ وقال الحسن‏:‏ إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا‏.‏ وقال القتبي‏:‏ إذا سفه عليهم حلموا، وقال ابن جبير‏:‏ يدفعون المنكر بالمعروف‏.‏ وقال ابن كيسان‏:‏ إذا أذنبوا تابوا، وإذا هربوا أنابوا ليدفعوا عن أنفسهم بالتوبة معرّة الذنب، وهذا المعنى قول ابن عباس في رواية الضحاك عنه‏.‏ وقيل‏:‏ يدفعون بلا إله إلا الله شركهم‏.‏ وقيل‏:‏ بالسلام غوائل الناس‏.‏ وقيل‏:‏ من رأوا منه مكروهاً بالتي هي أحسن‏.‏ وقيل‏:‏ بالصالح من العمل السيئ، ويؤيده ما روي في الحديث أن معاذاً قال‏:‏ أوصني يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ إذا عملت سيئة فاعمل إلى جنبها حسنة تمحها السر بالسرّ والعلانية بالعلانية ‏"‏ وقيل العذاب‏:‏ بالصدقة‏.‏ وقيل‏:‏ إذا هموا بالسيئة فكروا ورجعوا عنها واستغفروا‏.‏ وهذه الأقوال كلها على سبيل المجاز‏.‏ وبالجملة لا يكافئون الشر بالشر كما قال الشاعر‏:‏

يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرة *** ومن إساءة أهل السوء إحساناً

وهذا بخلاف خلق الجاهلية كما قال‏:‏

جريء متى يظلم يعاقب بظلمه *** سريعاً وإن لا يبد بالظلم يظلم

وروي أنّ هذه الآية نزلت في الأنصار، ثم هي عامة بعد ذلك في كل من اتصف بهذه الصفات‏.‏

وعقبي الدار‏:‏ عاقبة الدنيا، وهي الجنة، لأنها التي أراد الله أن تكون عاقبة الدنيا وموضع أهلها‏.‏ وجنات عدن بدل من عقبى الدار، ويحتمل أن يراد عقبى دار الآخرة لدار الدنيا في العقبى الحسنة في الدار الآخرة هي لهم، ويحتمل أن كون جنات خبر ابتداء محذوف‏.‏ وقرأ الجمهور‏:‏ جنات، والنخعي‏:‏ جنة بالإفراد‏.‏ وروي عن ابن كثير، وأبي عمرو‏:‏ يدخلونها مبنياً للمفعول‏.‏ وقرأ ابن أبي عبلة‏:‏ ومن صلح بضم اللام، والجمهور بفتحها، وهو أفصح‏.‏ وقرأ عيسى الثقفي‏:‏ وذريتهم بالتوحيد، والجمهور بالجمع‏.‏ وقرأ ابن يعمر‏:‏ فنعم بفتح النون وكسر العين وهي الأصل، كما قال الراجز‏:‏

نعم الساعون في اليوم الشطر *** وقرأ ابن وثاب‏:‏ فنعم بفتح النون وسكون العين، وتخفيف فعل لغة تميميمة، والجمهور نعم بكسر النون وسكون العين، وهي أكثر استعمالاً‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ ومن صلح أي عمل صالحاً وآمن انتهى‏.‏ وهذا يدل على أن مجرد النسب من الصالح لا ينفع، إنما تنفع الأعمال الصالحة‏.‏ وقيل‏:‏ يحتمل قوله‏:‏ ومن صلح أي‏:‏ لذلك بقدر الله تعالى وسابق علمه‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هذا الصلاح هو الإيمان بالله وبالرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه بشارة بنعمة اجتماعهم مع قراباتهم في الجنة‏.‏ والظاهر أنّ ومن معطوف على الضمير في يدخلونها وقد فصل بينهما بالمفعول‏.‏ وقيل‏:‏ يجوز أن يكون مفعولاً معه أي‏:‏ يدخلونها مع من صلح‏.‏ ويشتمل قوله‏:‏ من آبائهم، أبوي كل واحد والده ووالدته، وغلب الذكور على الإناث، فكأنه قيل‏:‏ ومن صلح من آبائهم وأمهاتهم‏.‏ والملائكة يدخلون عليهم من كل باب أي‏:‏ بالتحف والهدايا من الله تعالى تكرمة لهم‏.‏ قال أبو بكر الورّاق‏:‏ هذه ثمانية أعمال تشير إلى ثمانية أبواب الجنة، من عملها دخلها من أي باب شاء‏.‏ قال الأصم‏:‏ نحو هذا قال‏:‏ من كل باب باب الصلاة، وباب الزكاة، وباب الصبر‏.‏ ولأبي عبد الله الرازي كلام عجيب في الملائكة ذكر‏:‏ أن الملائكة طوائف منهم روحانيون، ومنهم كروبيون، فالعبد إذا راض نفسه بأنواع الرياضات كالصبر والشكر والمراقبة والمحاسبة، فلكل مرتبة من هذه المراتب جوهر قدسي وروح علوي يحفظ لتلك الصفة مزيد اختصاص، فعند الموت إذا أشرقت تلك الجواهر القدسية تجلت فيها من كل روح من الأرواح السمائية ما يناسبها من الصفة المخصوصة، فيفيض عليها من ملائكة الصبر كمالات مخصوصة نفسانية لا تظهر إلا في مقام الصبر، ومن ملائكة الشكر كمالات روحانية لا تتجلى إلا في مقام الشكر، وهكذا القول في جميع المراتب انتهى‏.‏ وهذا كلام فلسفي لا تفهمه العرب، ولا جاءت به الأنبياء، فهو كلام مطرح لا يلتفت إليه المسلمون‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وحكى الطبري رحمه الله في صفة دخول الملائكة أحاديث لم نطول بها لضعف أسانيدها انتهى‏.‏

وارتفع سلام على الابتداء، وعليكم الخبر، والجملة محكية بقول محذوف أي‏:‏ يقولون سلام عليكم‏.‏

والظاهر أن قوله تعالى‏:‏ سلام عليكم تحية الملائكة لهم، ويكون قوله تعالى‏:‏ بما صبرتم، خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هذا الثواب بسبب صبركم في الدنيا على المشاق، أو تكون الباء بمعنى بدل أي‏:‏ بدل صبركم أي‏:‏ بدل ما احتملتم من مشاق الصبر، هذه الملاذ والنعم‏.‏ وقيل‏:‏ سلام جمع سلامة أي‏:‏ إنما سلمكم الله تعالى من أهوال يوم القيامة بصبركم في الدنيا‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يتعلق بسلام أي‏:‏ يسلم عليكم ويكرمكم بصبركم، والمخصوص بالمدح محذوف أي‏:‏ فنعم عقبى الدار الجنة من جهنم، والدار‏:‏ تحتمل الدنيا وتحتمل الآخرة‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ المعنى أن عقبوا الجنة من جهنم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وهذا التأويل مبني على حديث ورد وهو‏:‏ «أن كل رجل في الجنة قد كان له مقعد معروف في النار، فصرفه الله تعالى عنه إلى النعيم فيعرض عليه ويقال له‏:‏ هذا مكان مقعدك، فبدّلك الله منه الجنة بإيمانك وطاعتك وصبرك» انتهى‏.‏ ولما كان الصبر هو الذي نشأ عنه تلك الطاعات السابقة، ذكرت الملائكة أن النعيم السرمدي إنما هو حاصل بسبب الصبر، ولم يأت التركيب بالإيفاء بالعهد، ولا بغير ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 26‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ‏(‏25‏)‏ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ ‏(‏26‏)‏‏}‏

قال مقاتل نزلت‏:‏ والذين ينقضون في أهل الكتاب‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ نزلت الله يبسط في مشركي مكة، ولما ذكر تعالى حال السعداء وما ترتب لهم من الأمور السنية الشريفة، ذكر حال الأشقياء وما ترتب لهم من الأمور المخزية‏.‏ وتقدم تفسير الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل الآية في أوائل البقرة وترتب للسعداء هناك التصريح بعقبي الدار وهي الجنة، وإكرام الملائكة لهم بالسلام، وذلك غاية القرب والتأنيس‏.‏ وهنا ترتب للأشقياء الإبعاد من رحمة الله‏.‏ وسوء الدار أي‏:‏ الدار السوء وهي النار، وسوء عاقبة الدار، وتكون دار الدنيا‏.‏ ولما كان كثير من الأشقياء فتحت عليهم نعم الدنيا ولذاتها أخبر تعالى أنه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، والكفر والإيمان لا تعلق لهما بالرزق‏.‏ قد يقدر على المؤمن ليعظم أجره، ويبسط للكافر إملاء لازدياد آثامه‏.‏ ويقدر مقابل يبسط، وهو التضييق من قوله‏:‏ ‏{‏ومن قدر عليه رزقه‏}‏ وعليه يحمل ‏{‏فظن أنْ لن نقدر عليه‏}‏ وقول ذلك الذي أحرق وذري في البحر‏:‏ «لئن قدر الله على» أي لئن ضيق‏.‏ وقيل‏:‏ يقدر يعطي بقدر الكفاية‏.‏ وقرأ زيد بن علي‏:‏ ويقدر بضم الدال، حيث وقع والضمير في فرحوا عائد على الذين ينقضون، وهو استئناف إخبار عن جهلهم بما أوتوا من بسطة الدنيا عليهم، وفرحهم فرح بطر وبسط لا فرح سرور بفضل الله وإنعامه عليهم، ولم يقابلوه بالشكر حتى يستوجبوا نعيم الآخرة بفضل الله به، واستجهلهم بهذا الفرح إذ هو فرح بما يزول عن قريب وينقضي‏.‏ ويبعد قول من ذهب إلى أنه معطوف على صلات‏.‏ والذين ينقضون أي‏:‏ يفسدون في الأرض، وفرحوا بالحياة الدنيا‏.‏ وفي الكلام تقديم وتأخير‏.‏ ومتاع‏:‏ معناه ذاهب مضمحل يستمتع به قليلاً ثم يفنى‏.‏ كما قال الشاعر‏:‏

تمتع يا مشعث إن شيئاً *** سبقت به الممات هو المتاع

وقال آخر‏:‏

أنت نعم المتاع لو كنت تبقى *** غير أن لا بقاء للإنسان

وقال آخر‏:‏

تمتع من الدنيا فإنك فان *** من النشوات والنساء الحسان

قال الزمخشري‏:‏ خفي عليهم أن نعيم الدنيا في جنب نعيم الآخرة ليس إلا شيئاً نذراً، يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك انتهى‏.‏ وهذا معنى قول الحسن‏:‏ أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن الحياة الدنيا في جنب ما أعد الله لأوليائه في الآخرة نذر ليس يتمتع به كعجالة الراكب، وهو ما يتعجله من تميرات أو شربة سويق أو غير ذلك‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ زاد كزاد الرعي‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ قليل ذاهب من متع النهار إذا ارتفع فلا بد له من زوال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ‏(‏27‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ‏(‏28‏)‏ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآَبٍ ‏(‏29‏)‏‏}‏

نزلت‏:‏ ويقول الذين كفروا، في مشركي مكة، طلبوا مثل آيات الأنبياء‏.‏ والملتمس ذلك هو عبد الله بن أبي أمية وأصحابه، رد تعالى على مقترحي الآيات من كفار قريش كسقوط السماء عليهم كسفاً‏.‏ وقولهم‏:‏ سير علينا الأخشبين، واجعل لنا البطاح محارث ومغترساً كالأردن، وأحي لنا مضينا وأسلافنا، ولم تجر عادة الله في الإتيان بالآيات المقترحة إلا إذا أراد هلاك مقترحها، فرد تعالى عليهم بأن نزول الآية لا يقتضي ضرورة إيمانكم وهداكم، لأنّ الأمر بيد الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏

وقال الزمخشري‏:‏ ‏(‏فإن قلت‏)‏‏:‏ كيف يطابق قولهم‏:‏ لولا أنزل عليه آية من ربه، قل إن الله يضل من يشاء‏؟‏ ‏(‏قلت‏)‏‏:‏ هو كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك أن الآيات الباهرة المتكاثرة التي أوتيها رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤتها نبي قبله، وكفى بالقرآن وحده آية وراء كل آية، فإذا جحدوها ولم يعتدوا بها وجعلوه كأنه لم ينزل عليه قط كان موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم‏:‏ ما أعظم عنادكم وما أشد تصميمكم على كفركم إن الله يضل من يشاء، فمن كان على صفتكم من التصميم وشدة التسليم في الكفر فلا سبيل إلى اهتدائكم وإن أنزلت كل آية، ويهدي إليه من كان على خلاف صفتكم‏.‏ وقال أبو علي الجبائي‏:‏ يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره، ويهدي إليه من أناب أي‏:‏ إلى جنته من أناب أي‏:‏ من تاب‏.‏ والهدى تعلقه بالمؤمن هو الثواب لأنه يستحقه على إيمانه، وذلك يدل على أنه يضل عن الثواب بالعقاب، لا عن الدين بالكفر، على ما ذهب إليه من خالفنا انتهى‏.‏ وهي على طريقة الاعتزال‏.‏

والضمير في إليه عائد على القرآن، أو على الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ والظاهر أنه عائد على الله تعالى على حذف مضاف أي‏:‏ إلى دينه وشرعه‏.‏ وأناب أقبل إلى الحق، وحقيقته دخل في توبة الخير‏.‏ والذين آمنوا‏:‏ بدل من أناب‏.‏ واطمئنان القلوب سكونها بعد الاضطراب من خشيته‏.‏ وذكر الله ذكر رحمته ومغفرته، أو ذكر دلائله على وحدانيته المزيلة لعلف الشبه‏.‏ أو تطمئن بالقرآن، لأنه أعظم المعجزات تسكن به القلوب وتنتبه‏.‏ ثم ذكر الحض على ذكر الله وأنه به تحصل الطمأنينة ترغيباً في الإيمان، والمعنى‏:‏ أنه بذكره تعالى تطمئن القلوب لا بالآيات المقترحة، بل ربما كفر بعدها، فنزل العذاب كما سلف في بعض الأمم‏.‏ وجوزوا في الذين أن يكون بدلاً من الذين، وبدلاً من القلوب على حذف مضاف أي‏:‏ قلوب الذين، وأن يكون خبر مبتدأ محذوف أي‏:‏ هم الذين، وأن يكون مبتدأ خبره ما بعده‏.‏

وطوبى‏:‏ فعل من الطيب، قلبت ياؤه واواً لضمة ما قبلها كما قلبت في موسر، واختلفوا في مدلولها‏:‏ فقال أبو الحسن الهنائي‏:‏ هي جمع طيبة قالوا في جمع كيسة كوسى، وصيفة صوفى‏.‏

وفعلى ليست من ألفاظ الجموع، فلعله يعني بها اسم جمع‏.‏ وقال الجمهور‏:‏ هي مفرد كبشرى وسقيا ورجعى وعقبى، واختلف القائلون بهذا في معناها‏.‏ فقال الضحاك‏:‏ المعنى غبطة لهم‏.‏ وعنه أيضاً‏:‏ أصبت خيراً‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ نعمى لهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ فرح وقرة عين‏.‏ وقال قتادة‏:‏ حسنى لهم‏.‏ وقال النخعي‏:‏ خير لهم، وعنه أيضاً كرامة لهم‏.‏ وعن سميط بن عجلان‏:‏ دوام الخير‏.‏ وهذه أقوال متقاربة، والمعنى العيش الطيب لهم‏.‏ وعن ابن عباس، وابن جبير‏:‏ طوبى اسم للجنة بالحبشية‏.‏ وقيل‏:‏ بلغة الهند‏.‏ وقال أبو هريرة، وابن عباس أيضاً، ومعتب بن سمي، وعبيد بن عمير، ووهب بن منبه‏:‏ هي شجرة في الجنة‏.‏ وروي مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث عتبة بن عبيد السلمي أنه قال، ‏"‏ وقد سأله أعرابي‏:‏ يا رسول الله أفي الجنة فاكهة‏؟‏ قال‏:‏ «نعم فيها شجرة تدعى طوبى» ‏"‏ وذكر الحديث‏.‏ قال القرطبي‏:‏ الصحيح أنها شجرة للحديث المرفوع حديث عتبة، وهو صحيح على ما ذكره السهيلي، وذكره أبو عمر في التمهيد والثعلبي‏.‏ وطوبى‏:‏ مبتدأ، وخبره لهم‏.‏ فإن كانت علماً لشجرة في الجنة فلا كلام في جواز الابتداء، وإن كانت نكرة فمسوغ الابتداء بها ما ذهب إليه سيبويه من أنه ذهب بها مذهب الدعاء كقولهم‏:‏ سلام عليك، إلا أنه التزم فيه الرفع على الابتداء، فلا تدخل عليه نواسخه هكذا قال‏:‏ ابن مالك‏.‏ ويرده أنه قرئ‏:‏ وحسن مآب بالنصب، قرأه كذلك عيسى الثقفي، وخرج ذلك ثعلب على أنه معطوف على طوبى، وأنها في موضع نصب، وحسن مآب معطوف عليها‏.‏ قال ثعلب‏:‏ وطوبى على هذا مصدر كما قالوا‏:‏ سقيا‏.‏ وخرجه صاحب اللوامح على النداء قال‏:‏ بتقدير يا طوبى لهم، ويا حسن مآب‏.‏ فحسن معطوف على المنادى المضاف في هذه القراءة، فهذا نداء للتحنين والتشويق كما قال‏:‏ يا أسفي على الفوت والندبة انتهى‏.‏ ويعني بقوله‏:‏ معطوف على المنادى المضاف، أنّ طوبى مضاف للضمير، واللام مقحمة كما أقحمت في قوله‏:‏ يا بؤس للجهل ضراراً لأقوام، وقول الآخر‏:‏ يا بؤس للحرب التي، ولذلك سقط التنوين من بؤس وكأنه قيل‏:‏ يا طوباهم وحسن مآب أي‏:‏ ما أطيبهم وأحسن مآبهم، كما تقول‏:‏ يا طيبها ليلة أي‏:‏ ما أطيبها ليلة‏.‏ وقرأ بكرة الأعرابي طيبي بكسر الطاء، لتسلم الياء من القلب، وإن كان وزنها فعلى، كما كسروا في بيض لتسلم الياء، وإن كان وزنها فعلاً كحمر‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ أصبت خيراً وطيباً، ومحلها النصب أو الرفع كقولك‏:‏ طيباً لك، وطيب لك، وسلاماً لك، وسلام لك، والقراءة في قوله‏:‏ وحسن مآب بالرفع والنصب بذلك على محلها، واللام في لهم للبيان مثلها في سقيا لك‏.‏ وقرئ‏:‏ وحسن مآب بفتح النون، ورفع مآب‏.‏ فحسن فعل ماض أصله وحسن نقلت ضمة سينه إلى الحاء، وهذا جائز في فعل إذا كان للمدح أو الذم كما قالوا‏:‏ حسن ذا أدباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ ‏(‏30‏)‏‏}‏

قال قتادة، وابن جريج، ومقاتل‏:‏ لما رأوا كتاب الصلح يوم الحديبية وقد كتب بسم الله الرحمن الرحيم قال سهيل بن عمرو‏:‏ ما يعرف الرحمن إلا مسيلمة، فنزلت‏.‏ وقيل‏:‏ سمع أبو جهل الرسول صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ يا رحمن، فقال‏:‏ إن محمداً ينهانا عن عبادة آلهة وهو يدعو إلهين فنزلت‏.‏ ذكر هذا علي بن أحمد النيسابوري، وعن ابن عباس‏:‏ لما قيل لكفار قريش اسجدوا للرحمن قالوا‏:‏ وما الرحمن فنزلت‏.‏ قال الزمخشري مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعني‏:‏ أرسلناك آرسالاً له شأن وفضل على سائر الإرسالات انتهى‏.‏ ولم يتقدم إرسال يشار إليه بذلك، إلا إن كان يفهم من المعنى فيمكن ذلك‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كإرسالنا الرسل أرسلناك، فذلك إشارة إلى إرساله الرسل‏.‏ وقيل‏:‏ الكاف متعلقة بالمعنى الذي في قوله‏:‏ ‏{‏قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب‏}‏ كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ والذي يظهر لي أنّ المعنى كما أجرينا العادة بأنّ الله يضل من يشاء ويهدي بالآيات المقترحة، فكذلك فعلنا في هذه الأمة أرسلناك إليهم بوحي، لا بالآيات المقترحة، فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء انتهى‏.‏ وقال الحوفي‏:‏ الكاف للتشبيه في موضع نصب أي‏:‏ كفعلنا الهداية والإضلال، والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏ وقال أبو البقاء‏:‏ كذلك التقدير الأمر كذلك‏.‏ قد خلت من قبلها أمم أي‏:‏ تقدمتها أمم كثيرة، والمعنى‏:‏ أرسلت فيهم رسل فمثل ذلك الإرسال أرسلناك‏.‏ ودل هذا المحذوف الذي يقتضيه المعنى على أنّ الإشارة بذلك إلى إرساله تعالى الرسل كما قال الحسن، ولتتلو أي‏:‏ لتقرأ عليهم الكتاب المنزل عليك‏.‏ وعلة الإرسال هي الإبلاغ للدين الذي أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يكفرون أي‏:‏ وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن جملة حالية أي‏:‏ أرسلناك في أمة رحمة لها مني وهم يكفرون بي أي‏:‏ وحال هؤلاء أنهم يكفرون بالرحمن بالبليغ الرحمة‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في قوله‏:‏ وهم، عائد على أمة المرسل إليهم الرسول إعادة على المعنى، إذ لو أعاد على اللفظ لكان التركيب وهي تكفر، والمعنى‏:‏ أرسلناك إليهم وهم يدينون دين الكفر، فهدى الله بك من أراد هدايته‏.‏ وقيل‏:‏ يعود على الذين قالوا‏:‏ ‏{‏لولا أنزل عليه آية من ربه‏}‏ وقيل‏:‏ يعود على أمة وعلى أمم، والمعنى‏:‏ الإخبار بأنّ الأمم السالفة أرسلت إليهم الرسل والأمة التي أرسلت إليها جميعهم جاءتهم الرسل وهم يدينون دين الكفر، فيكون في ذلك تسلية للرسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أمته مثل الأمم السالفة‏.‏ ونبه على الوصف الموجب لإرسال الرسول وهو الرحمة الموجبة لشكر الله على إنعامه عليهم ببعثة الرسول والإيمان به‏.‏ قل‏:‏ هو أي الرحمن الذي كفروا به هو ربي الواحد المتعال عن الشركاء، عليه توكلت في نصرتي عليكم، وجميع أموري، وإليه مرجعي، فيثبتني على مجاهدتكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ‏(‏31‏)‏ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ‏(‏32‏)‏‏}‏

القارعة‏:‏ الرزية التي تقرع قلب صاحبها أي‏:‏ تضربه بشدة، كالقتل، والأسر والنهب، وكشف الحريم‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

فلما قرعنا النبع بالنبع بعضه *** ببعض أبت عيدانه أن تكسرا

أي ضربنا بقوة‏.‏ وقال الزجاج القارعة في اللغة النازلة الشديدة تنزل بأمر عظيم‏.‏

‏{‏ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعاً أفلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريباً من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد‏.‏ ولقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب‏}‏‏:‏ قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما‏:‏ إن الكفار قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ سير جبلي مكة فقد ضيقا علينا، واجعل لنا أرضاً قطعاً غراساً، وأحي لنا آباءنا وأجدادنا، وفلاناً وفلاناً، فنزلت معلمة أنهم لا يؤمنون ولو كان ذلك كله‏.‏ ولما ذكر تعالى علة إرساله، وهي تلاوة ما أوحاه إليه، ذكر تعظيم هذا الموحى وأنه لو كان قرآناً تسير به الجبال عن مقارها، أو تقطع به الأرض حتى تتزايل قطعاً قطعاً، أو تكلم به الموتى فتسمع وتجيب، لكان هذا القرآن لكونه غاية في التذكير، ونهاية في الإنذار والتخويف‏.‏ كما قال‏:‏ ‏{‏لو أنزلنا هذا القرآن على جبل‏}‏ الآية فجواب لو محذوف وهو ما قدرناه، وحذف جواب لو لدلالة المعنى عليه جائز نحو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو يرى الذين ظلموا إذ يرون العذاب‏}‏ ‏{‏ولو ترى إذ وقفوا على النار‏}‏ وقال الشاعر‏:‏

وجدك لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد عنك مدفعا

وقيل‏:‏ تقديره لما آمنوا به كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً ما كانوا ليؤمنوا‏}‏ قال الزجاج‏.‏ وقال الفراء‏:‏ هو متعلق بما قبله، والمعنى‏:‏ وهم يكفرون بالرحمن‏.‏ ولو أن قرآناً سيرت به الجبال وما بينهما اعتراض، وعلى قول الفراء‏:‏ يترتب جواب لو أن يكون لما آمنوا، لأنّ قولهم وهم يكفرون بالرحمن ليس جواباً، وإنما هو دليل على الجواب‏.‏ وقيل‏:‏ معنى قطعت به الأرض شققت فجعلت أنهاراً وعيوناً‏.‏ ويترتب على أن يكون الجواب المحذوف لما آمنوا قوله‏:‏ بل لله الأمر جميعاً أي‏:‏ الإيمان والكفر، إنما يخلقهما الله تعالى ويريدهما‏.‏ وأما على تقدير لكان هذا القرآن، فيحتاج إلى ضميمة وهو أن يقدر‏:‏ لكان هذا القرآن الذي أوحينا إليك المطلوب فيه إيمانهم وما تضمنه من التكاليف، ثم قال‏:‏ بل لله الأمر جميعاً أي‏:‏ الإيمان والكفر بيد الله يخلقهما فيمن يشاء‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ بل لله الأمر جميعاً على معنيين‏:‏ أحدهما‏:‏ بل لله القدرة على كل شيء، وهو قادر على الآيات التي اقترحوها، إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة‏.‏

والثاني‏:‏ بل لله أن يلجئهم إلى الإيمان وهو قادر على الإلجاء‏.‏ لولا أنه بنى أمر التكليف على الاختيار، ويعضده قوله تعالى‏:‏ أفلم يايئس الذين آمنوا أن لو يشاء الله، مشيئة الإلجاء والقسر لهدى الناس جميعاً انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ واليأس القنوط في الشيء، وهو هنا في قول الأكثرين بمعنى العلم، كأنه قيل‏:‏ ألم يعلم الذين آمنوا‏.‏ قال القاسم بن معن هي‏:‏ لغة هوازن، وقال ابن الكلبي‏:‏ هي لغة من النخع وأنشدوا على ذلك لسحيم بن وثيل الرياحي وقال ابن الكلبي‏:‏

أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني *** ألم تيأسوا إني ابن فارس زهدم

وقال رباح بن عدي‏:‏

ألم ييأس الأقوام أني أنا ابنه *** وإن كنت عن أرض العشيرة نائيا

وقال آخر‏:‏

حتى اذا يئس الرماة وارسلوا *** غضفاً دواجن قافلاً أعصامها

أي إذا علموا أنّ ليس وجد إلا لذي وارا‏.‏ وأنكر الفراء أن يكون يئس بمعنى علم، وزعم أنه لم يسمع أحد من العرب يقول‏:‏ يئست بمعنى علمت انتهى‏.‏ وقد حفظ ذلك غيره، وهذا القاسم بن معن من ثقاة الكوفيين وأجلائهم نقل أنها لغة هوزان، وابن الكلبي نقل أنها لغة لحي من النخع، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ‏.‏ وقيل‏:‏ إنما استعمل اليأس بمعنى العلم لتضمنه معناه، لأنّ اليائس من الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنسيان في معنى الترك‏.‏ وحمل جماعة هنا اليأس على المعروف فيه في اللغة وهو‏:‏ القنوط من الشيء، وتأولوا ذلك‏.‏ فقال الكسائي‏:‏ المعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش المعاندين لله ورسوله‏؟‏ وذلك أنه لما سألوا هذه الآيات اشتاق المؤمنون إليها وأحبوا نزولها ليؤمن هؤلاء الذين علم الله تعالى منهم أنهم لا يؤمنون، فقال الذين آمنوا من إيمانهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ وقع للمؤمنين أن لو يشاء هدى الناس جميعاً فقال‏:‏ أفلم ييأسوا‏؟‏ علمنا بقول آبائهم، فالعلم مضمر كما تقول في الكلام‏:‏ يئست منك أن لا تفلح كأنه قال‏:‏ علمته علماً قال‏:‏ فيئست بمعنى علمت وإن لم يكن قد سمع، فإنه يتوجه إلى ذلك بالتأويل‏.‏ وقال أبو العباس‏:‏ أفلم ييأسوا بعلمهم أن لا هداية إلا بالمشيئة‏؟‏ وإيضاح هذا المعنى أن يكون‏:‏ أن لو يشاء الله متعلقاً بآمنوا أي‏:‏ أفلم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ولهداهم إلى الإيمان أو الجنة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه، وذلك أنه لما أبعد إيمانهم في قوله‏:‏ ولو أن قرآناً الآية على التأويل في المحذوف المقدر‏.‏ قال في هذه‏:‏ أفلم ييأس المؤمنون انتهى‏.‏

وهذا قول الفراء الذي ذكرناه، وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يتعلق أن لو يشاء الله بآمنوا على أو لم يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً انتهى‏.‏ وهذا قول أبي العباس، ويحتمل عندي وجه آخر غير ما ذكروه، وهو أن الكلام تام عند قوله‏:‏ أفلم ييأس الذين آمنوا، إذ هو تقرير أي‏:‏ قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعاندين‏.‏ وأنْ لو يشاء جواب قسم محذوف أي‏:‏ وأقسموا لو شاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على إضمار هذا القسم وجود أنْ مع لو كقول الشاعر‏:‏

أما والله أن لو كنت حراً *** وما بالحر أنت ولا القمين

وقول الآخر‏:‏

فاقسم أن لو التقينا وأنتم *** لكان لنا يوم من الشر مظلم

وقد ذكر سيبويه أنّ أن تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم المقسم بالجملة عليها، وأما على تأويل الجمهور فإن عندهم هي المخففة من الثقيلة أي‏:‏ أنه لو يشاء الله‏.‏ وقرأ علي وابن عباس قال الزمخشري وجماعة من الصحابة والتابعين، وقال غيره، وعكرمة، وابن أبي مليكة، والجحدري، وعلي بن الحسين، وابنه زيد، وأبو زيد المزني، وعلي بن نديمة، وعبد الله بن يزيد‏:‏ أفلم يتبين من بينت كذا إذا عرفته‏.‏ وتدل هذه القراءة على أنّ معنى أفلم ييأس هنا معنى العلم، كما تظافرت النقول أنها لغة لبعض العرب‏.‏ وهذه القراءة ليست قراءة تفسير لقوله‏:‏ أفلم ييأس، كما يدل عليه ظاهر كلام الزمخشري، بل هي قراءة مسندة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وليست مخالفة للسواد إذ كتبوا ييئس بغير صورة الهمزة، وهذا كقراءة‏:‏ ‏{‏فتبينوا‏}‏ و‏{‏فثبتوا‏}‏ وكلتاهما في السبعة‏.‏ وأما قول من قال‏:‏ إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، فسوى أسنان السين فقول زنديق ملحد‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى مثل هذا حتى يبقى ثابتاً بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهتمين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه، خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها البناء، وهذه والله فرية ما فيها مرية انتهى‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لا يتلى إلا كما أنزل‏:‏ أفلم ييأس انتهى‏.‏

والكفار عام في جميع الكفار، وهذا الأمر مستمر فيهم إلى يوم القيامة قاله‏:‏ الحسن، وابن السائب، أو هو ظاهر اللفظ‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كفار قريش، والعرب لا تزال تصيبهم قوارع من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وغزواته‏.‏ وقال مقاتل والزمخشري‏:‏ كفار مكة‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وسوء أعمالهم قارعة داهية تقرعهم بما يحل الله بهم في كل وقت من صنوف البلايا والمصائب في أنفسهم وأولادهم وأموالهم، أو تحل القارعة قريباً منهم فيفزعون ويضطربون ويتطاير إليهم شررها، وتتعدى إليهم شرورها حتى يأتي وعد الله وهو موتهم، أو القيامة انتهى‏.‏

وقال الحسن‏:‏ حال الكفرة هكذا هو أبداً، ووعد الله قيام الساعة‏.‏ والظاهر أنّ الضمير في تحل عائد على قارعة قاله الحسن‏.‏ وقالت فرقة‏:‏ التاء للخطاب، والضمير للرسول صلى الله عليه وسلم، أو تحل أنت يا محمد قريباً من دارهم بجيشك كما حلّ بالحديبية، وعزاه الطبري إلى‏:‏ ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وقاله عكرمة‏.‏ ويكون وعد الله فتح مكة، وكان الله قد وعده ذلك، وقاله ابن عباس ومجاهد‏.‏ وقرأ مجاهد، وابن جبير‏:‏ أو يحل بالياء على الغيبة، واحتمل أن يكون عائداً على معنى القارعة راعى فيه التذكير لأنها بمعنى البلاء، أو تكون الهاء في قارعة للمبالغة، فذكر واحتمل أن يكون عائداً على الرسول صلى الله عليه وسلم أي‏:‏ ويحل الرسول قريباً‏.‏ وقرأ أيضاً من ديارهم على الجمع‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ القارعة العذاب من السماء‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ السرايا والطلائع‏.‏ وفي قوله‏:‏ ولقد استهزئ الآية، تسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وأنّ حالك حال من تقدمك من الرسل، وأنّ المستهزئين يملى لهم أي‏:‏ يمهلون ثم يؤخذون‏.‏ وتنبيه على أنّ حال من استهزأ بك، وإن أمهل حال أولئك في أخذهم ووعيد لهم‏.‏ وفي قوله‏:‏ فكيف كان عقاب استفهام معناه التعجب بما حل، وفي ضمنه وعيد معاصري الرسول صلى الله عليه وسلم من الكفار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 34‏]‏

‏{‏أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ‏(‏33‏)‏ لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ ‏(‏34‏)‏‏}‏

من موصولة صلتها ما بعدها، وهي مبتدأ والخبر محذوف تقديره‏:‏ كمن ييئس، كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، كما حذف من قوله‏:‏ ‏{‏أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه‏}‏ تقديره‏:‏ كالقاسي قلبه الذي هو في ظلمة‏.‏ ودل عليه قوله تعالى‏:‏ وجعلوا لله شركاء، كما دل على القاسي ‏{‏فويل للقاسية قلوبهم‏}‏ ويحسن حذف هذا الخبر كون المبتدأ يكون مقابله الخبر المحذوف، وقد جاء مثبتاً كثيراً كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أفمن يخلق كمن لا يخلق‏}‏ ‏{‏أفمن يعلم‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏كمن هو أعمى‏}‏ والظاهر أنّ قوله تعالى‏:‏ وجعلوا لله شركاء، استئناف إخبار عن سوء صنيعهم، وكونهم أشركوا مع الله ما لا يصلح للألوهية‏.‏ نعى عليهم هذا الفعل القبيح، هذا والباري تعالى هو المحيط بأحوال النفوس جليها وخفيها‏.‏ ونبه على بعض حالاتها وهو الكسب، ليتفكر الإنسان فيما يكسب من خير وشر، وما يترتب على الكسب في الجزاء، وعبر بقائم عن الإحاطة والمراقبة التي لا يغفل عنها‏.‏ وقال الزمخشري‏:‏ ويجوز أن يقدر ما يقع خبراً للمبتدأ، ويعطف عليه وجعلوا لله أي‏:‏ وجعلوا، وتمثيله‏:‏ أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه، وجعلوا له شركاء، وهو الله الذي يستحق العبادة وحده انتهى‏.‏ وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله‏:‏ وجعلوا لله أي‏:‏ وجعلوا له، وفيه حذف الخبر عن المقابل، وأكثر ما جاء هذا الخبر مقابلاً‏.‏ وفي تفسير أبي عبد الله الرازي قال‏:‏ الشديد صاحب العقد، الواو في قوله تعالى‏:‏ وجعلوا واو الحال، والتقدير‏:‏ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجود، والحال أنهم جعلوا له شركاء، ثم أقيم الظاهر وهو لله مقام المضمر تقديراً لألوهيته وتصريحاً بها، كما تقول‏:‏ معطي الناس ومغنيهم موجود، ويحرم مثلي انتهى‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت أحق بالعبادة أم الجمادات التي لا تضر ولا تنفع‏؟‏ هذا تأويل‏.‏ ويظهر أنّ القول مرتبط بقوله‏:‏ وجعلوا لله شركاء، كأنّ المعنى‏:‏ أفمن له القدرة والوحدانية ويجعل له شريك، هل ينتقم ويعاقب أم لا‏؟‏ وأبعد من ذهب إلى أنّ قوله‏:‏ أفمن هو قائم المراد به الملائكة الموكلون ببني آدم، حكاه القرطبي عن الضحاك‏.‏ والخبر أيضاً محذوف تقديره‏:‏ كغيره من المخلوقين‏.‏ وأبعد أيضاً من ذهب إلى أن قوله‏:‏ وجعلوا معطوفاً على استهزئ، أي‏:‏ استهزؤوا وجعلوا، ثم أمره تعالى أن يقول لهم‏:‏ سموهم أي‏:‏ اذكروهم بأسمائهم، والمعنى‏:‏ أنهم ليسوا ممن يذكر ويسمى، إنما يذكر ويسمى من هو ينفع ويضرّ، وهذا مثل من يذكر لك أن شخصاً يوقر ويعظم وهو عندك لا يستحق ذلك فتقول لذاكره‏:‏ سمه حتى أبين لك زيفه وأنه ليس كما تذكر‏.‏ وقريب من هذا قول من قال في قوله‏:‏ قل سموهم، إنما يقال ذلك في الشيء المستحقر الذي يبلغ في الحقارة إلى أنْ لا يذكر ولا يوضع له اسم، فعند ذلك يقال له‏:‏ سمه إن شئت أي‏:‏ هو أخس من أن يذكر ويسمى‏.‏

ولكن إن شئت أن تضع له اسماً فافعل، فكأنه قال‏:‏ سموهم بالآلهة على جهة التهديد‏.‏ والمعنى‏:‏ سواء سميتموهم بهذا الاسم أم لم تسموهم به فإنها في الحقارة بحيث لا يستحق أن يلفت العاقل إليها‏.‏ وقيل‏:‏ سموهم إذا صنعوا وأماتوا وأحيوا لتصح الشركة‏.‏ وقيل‏:‏ طالبوهم بالحجة على أنها آلهة‏.‏ وقيل‏:‏ صفوهم وانظروا هل يستحقون الإلهية‏؟‏ وقال الزمخشري‏:‏ جعلتم له شركاء فسموهم له من هم، وبينوهم بأسمائهم‏.‏ وقيل‏:‏ هذا تهديد كما تقول لمن تهدده على شرب الخمر‏:‏ سم الخمر بعد هذا‏.‏ وأم في قوله‏:‏ أم تنبؤونه منقطعة، وهو استفهام توبيخ‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ بل أتنبؤونه بشركاء لا يعلمهم في الأرض وهو العالم بما في السموات والأرض، فإذا لم يعلمهم علم أنهم ليسوا بشيء يتعلق به العلم، والمراد نفي أن يكون له شركاء، ونحوه‏:‏ ‏{‏قل أتنبؤون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض‏}‏ انتهى‏.‏ فجعل الفاعل في قوله‏:‏ بما لا يعلم، عائداً على الله‏.‏ والعائد على بما محذوف أي‏:‏ بما لا يعلمه الله‏.‏ وكنا قد خرجنا تلك الآية على الفاعل في قوله‏:‏ بما لا يعلم، عائد على ما، وقررنا ذلك هناك، وهو يتقرر هنا أيضاً‏.‏ أي‏:‏ أتنبؤون الله بشركة الأصنام التي لا تتصف بعلم البتة‏.‏ وذكر نفي العلم في الأرض، إذ الأرض هي مقر تلك الأصنام، فإذا انتفى علمها في المقر التي هي فيه، فانتفاؤه في السموات أحرى‏.‏ وقرأ الحسن‏:‏ تنبؤونه من أنبأ‏.‏ وقيل‏:‏ المراد تقدرون أنْ تعلموه بأمر تعلمونه أنتم وهو لا يعلمه، وخص الأرض بنفي الشريك بأنه لم يكن له شريك البتة، لأنهم ادَّعوا أنَّ لله شريكاً في الأرض لا في غيرها‏.‏ والظاهر في أم في قوله‏:‏ أم، بظاهر أنها منقطعة أيضاً أي‏:‏ بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول من غير أن يكون لذلك حقيقة أي‏:‏ أنكم تنطقون بتلك الأسماء وتسمونها آلهة ولا حقيقة لها، إذ أنتم لا تعلمون أنها لا تتصف بشيء من أوصاف الألوهية كقوله‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها‏}‏ وقال مجاهد‏:‏ أم بظاهر من القول‏.‏ وقال قتادة‏:‏ بباطل من القول، لا باطن له في الحقيقة‏.‏ ومنه قول الشاعر‏:‏

أعيرتنا ألبانها ولحومها *** وذلك عار يابن ريطة ظاهر

أي باطل‏.‏ وقيل‏:‏ أم متصلة، والتقدير‏:‏ أم تنبئونه بظاهر من القول لا حقيقة له كقوله‏:‏ ‏{‏ذلك قولهم بأفواههم‏}‏ ثم قال بعد هذا الحجاج على وجه التحقير لما هم عليه‏:‏ بل زين للذين كفروا مكرهم‏.‏ وقال الواحدي‏:‏ لما ذكر الدلائل على فساد قولهم وقال‏:‏ دع ذلك الدليل لأنهم لا ينتفعون به، لأنه زيّن لهم مكرهم‏.‏

وقرأ مجاهد‏:‏ بل زين على البناء للفاعل مكرهم بالنصب‏.‏ والجمهور‏:‏ زين على النباء للمفعول مكرهم بالرفع أي‏:‏ كيدهم للإسلام بشركهم، وما قصدوا بأقوالهم وأفعالهم من مناقضة الشرع‏.‏ وقرأ الكوفيون‏:‏ وصدّوا هنا، وفي غافر بضم الصاد مبنياً للمفعول، فالفعل متعد‏.‏ وقرأ باقي السبعة‏:‏ بفتحها، فاحتمل التعدّي واللزوم أي‏:‏ صدوا أنفسهم أو غيرهم‏.‏ وقرأ ابن وثاب‏:‏ وصدوا بكسر الصاد، وهي كقراءة ردت إلينا بكسر الراء‏.‏ وفي اللوامح الكسائي لابن يعمر‏:‏ وصدوا بالكسر لغة، وفي الضم أجراه بحرف الجر نحو قبل، فأما في المؤمن فبالكسر لابن وثاب انتهى‏.‏ وقرأ ابن أبي إسحاق‏:‏ وصد بالتنوين عطفاً على مكرهم‏.‏ قال الزمخشري‏:‏ ومن يضلل الله، ومن يخذله يعلمه أنه لا يهتدي، فما له من هاد فما له من واحد يقدر على هدايته انتهى‏.‏ وهو على طريقة الاعتزال‏.‏ والعذاب في الدنيا هو ما يصيبهم بسبب كفرهم من القتل والأسر والنهب والذلة والحروب والبلايا في أجسامهم، وغير ذلك مما يمتحن به الكفار‏.‏ وكان عذاب الآخرة أشق على النفوس، لأنه إحراق بالنار دائماً ‏{‏كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها‏}‏ ومن واق‏:‏ من ساتر يحفظهم من العذاب ويحميهم، ولما ذكر ما أعد للكفار في الآخرة ذكر ما أعد للمؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏مثل الجنة التي وعد المتقون‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏‏.‏